تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ : هَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ كَمَا قَالَ ؟ أَمْ كَيْفَ الْحُكْمُ ؟ .
1
فَأَجَابَ : وَأَمَّا قَوْلُ الْحَالِفِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَلْزَمُهُ بِالطَّلَاقِ ; لَا مَنْ يَجُوزُ فِي الْحَلِف بِهِ كَفَّارَةٌ . أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ : عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَلْزَمُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا أَنِّي لَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِف بِالطَّلَاقِ . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِحِلِّ يَمِينِي أَوْ رَجْعَةٍ فِي يَمِينِي وَنَحْوَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَغْلُظُ فِيهَا اللُّزُومُ تَغْلِيظًا يُؤَكِّدُ بِهِ لُزُومَ الْمُعَلِّقِ عِنْدَ الْحِنْثِ ; لِئَلَّا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ ; فَإِنَّ الْحَالِفَ عِنْدَ الْيَمِينِ يُرِيدُ تَأْكِيدَ يَمِينِهِ بِكُلِّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّأْكِيدِ وَيُرِيدُ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُخْرِجُ هَذِهِ الْعُقُودَ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَيْمَانًا مُكَفِّرَةً وَلَوْ غَلَّظَ الْأَيْمَانَ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ بِمَا غَلَّظَ وَلَوْ قَصَدَ أَلَّا يَحْنَثَ فِيهَا بِحَالِ : فَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَرْعَ اللَّهِ . وَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ ; بَلْ مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ مَا زَادَتْهُ إلَّا تَوْكِيدًا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَلَا بِفِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ ؟ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ وَمُحَارَبَتِهِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَاجِبَةً وَهِيَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْجَبُ . وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا ; وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ يُبَايِعُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ وَلَوْ لَمْ يُبَايِعُوهُ فَالْبَيْعَةُ أَكَّدَتْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْقُضَ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ . وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ السُّلْطَانِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَنْقُضَهَا وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ بَلْ لَوْ عَاقَدَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ عَلَى بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ نِكَاحٍ : لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْعَقْدِ فَكَيْفَ بِمُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ . فَكُلُّ عَقْدٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَتْ الْيَمِينُ مُوَكَّدَةً لَهُ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ فَسْخُ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ حَرَامًا ; بَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِعْلُهُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا عَلَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَلَا يَفْعَلُهُ وَلَوْ غَلَّظَ فِي الْيَمِينِ بِأَيِّ شَيْءٍ غَلَّظَهَا ; فَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيَّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ بِيَمِينِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَلَا يُوجِبَ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ . هَذَا هُوَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ فَكَانَ فِي شَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ شَيْئًا حُرِّمَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمْ كَفَّارَةٌ فَقَالَ تَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } فَإِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَحُرِّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَهَذَا الْفَرْضُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا كَفَّارَةٌ بَلْ كَانَتْ الْيَمِينُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَمَرَ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبُ بِهِ وَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَوْ كَانَ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبِ امْرَأَتِهِ وَلَوْ بِضِغْثِ ; فَإِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ; لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا يُوجِبُونَهُ بِالْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ . كَانَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمْ كَالنَّذْرِ . وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ قَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يُرَخَّصُ فِي الْجَلْدِ الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ ; بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِيَمِينِهِ فِي شَرْعِنَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ وَلَهُ مَخْرَجٌ مِنْ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا بِالْكَفَّارَةِ . وَلَكِنْ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْأَيْمَانَ مِمَّا لَا مَخْرَجَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ بَلْ يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ فَطِنُوا أَنَّ شَرْعَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَشَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ احْتَاجُوا إلَى الِاحْتِيَالِ فِي الْأَيْمَانِ : إمَّا فِي لَفْظِ الْيَمِينِ وَإِمَّا بِخُلْعِ الْيَمِينِ وَإِمَّا بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَإِمَّا بِجَعْلِ النِّكَاحِ فَاسِدًا فَلَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ . وَإِنْ غَلَبُوا عَنْ هَذَا كُلِّهِ دَخَلُوا فِي التَّحْلِيلِ وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَمَا وَضَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَصَارَ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَا أَحْدَثَ غَيْرُهُ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ مَعَ شَرْعِهِ ; وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لَهُمْ سَعْيٌ مَشْكُورٌ وَعَمَلٌ مَبْرُورٌ وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى ذَلِكَ مُثَابُونَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ فَأَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ : مَنْ أَصَابَ هَذَا الْقَوْلَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ ; وَالْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِسُنَّتِهِ مَعَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ سَهْلٍ مُخَصَّبٍ يُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْدٌ وَفِيهَا وُعُورَةٌ وَفِيهَا حدوثة . فَصَاحِبُهَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْجُهْدِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَلِهَذَا أَذَاعُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ مِنْ لُزُومِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : مِنْ الْقَطِيعَةِ وَالْفُرْقَةِ ; وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَالسَّحَرَةُ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَظْهَرُ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ لِكُلِّ عَاقِلٍ . ثُمَّ إمَّا أَنْ يَلْزَمُوا هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَيَدْخُلُوا فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ . وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الِاحْتِيَالِ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَغْنَاهُمْ بِهِ مِنْ الْحَلَالِ . فَالطُّرُقُ ثَلَاثَةٌ : أَمَّا الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهِيَ طَرِيقُ أَفَاضِلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ وَإِنْ كَانَ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أُتُوا بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . وَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا أَدَّى اجْتِهَادَ كُلِّ فِرْقَةٍ إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ : فَكُلُّهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُقِيمُونَ لِلصَّلَاةِ ; لَكِنْ الَّذِي أَصَابَ الْقِبْلَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ أَجْرَانِ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ : بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ ; وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَكْفِيرَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ هُوَ مُكَفَّرٌ وَلَوْ غَلَّظَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ غَلَّظَ وَلَوْ الْتَزَمَ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ فَإِنَّ الْتِزَامَهُ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ الْتِزَامٌ لِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; بَلْ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ . فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِهَذَا الِالْتِزَامِ الْغَلِيظِ هُوَ يَكْرَهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ وَكُلَّمَا غَلَّظَ كَانَ لُزُومُهُ لَهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِقَصْدِهِ الْحَظْرَ وَالْمَنْعَ ; لِيَكُونَ لُزُومُهُ لَهُ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ ; لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِقَصْدِ لُزُومِهِ إيَّاهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ ; فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ يُنَاقِضُ عَقْدَ الْيَمِينِ ; فَإِنَّ الْحَالِفَ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ ; وَلَا يَحْلِفُ قَطُّ إلَّا بِالْتِزَامِهِ مَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يَقُولُ حَالِفٌ إنْ فَعَلْت كَذَا غَفَرَ اللَّهُ لِي وَلَا أَمَاتَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ ; بَلْ يَقُولُ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . أَوْ كُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ أَوْ عَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ حَافِيًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَوْ فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ . وَقَدْ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : عَلَيَّ أَنْ لَا أَسْتَفْتِيَ مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ وَيَلْتَزِمُ عِنْدَ غَضَبِهِ مِنْ اللَّوَازِمِ مَا يَرَى أَنَّهُ لَا مَخْرَجَ لَهُ مِنْهُ إذَا حَنِثَ . لِيَكُونَ لُزُومُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْصِدُ قَطُّ أَنْ يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ أَوْ لَمْ يَقَعْ وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ الْتَزَمَهَا لِاعْتِقَادِهِ لُزُومَهَا إيَّاهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ لِأَنْ يَلْتَزِمَهُ ; لَا مَعَ إرَادَتِهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الْجَزَاءِ غَيْرُ قَصْدِهِ لِلُزُومِ الْجَزَاءِ . فَإِنْ قَصَدَ لُزُومَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ : لَزِمَهُ مُطْلَقًا ; وَلَوْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَوْ إذَا فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرَ . فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَفْعَلِينَ كَذَا . وَقَصْدُهُ أَنَّهَا تَفْعَلُهُ فَتَطْلُقُ ; لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ الْفِعْلِ وَلَا هُوَ كَارِهٌ لِطَلَاقِهَا ; بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِطَلَاقِهَا : طَلُقَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ حَالِفًا ; بَلْ هُوَ مُعَلِّقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْإِيقَاعُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ هُنَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ التَّعْلِيقِ . وَالطَّلَاقُ هُنَا إنَّمَا وَقَعَ عِنْدَ الشَّرْطِ الَّذِي قُصِدَ إيقَاعُهُ عِنْدَهُ ; لَا عِنْدَ مَا هُوَ حِنْثٌ فِي الْحَقِيقَةِ ; إذًا لِاعْتِبَارِ بِقَصْدِهِ وَمُرَادِهِ ; لَا بِظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ : فَهُوَ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } . وَالسَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَجَمَاهِيرِ الْخَلَفِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا . وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ ; فَلِهَذَا يَقُولُونَ : إنَّهُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ . وَلَفْظُ الصَّرِيحِ عِنْدَهُمْ كَلَفْظِ الطَّلَاقِ لَوْ وَصَلَهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقِ الْحَبْسِ أَوْ مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي كَانَ قَبْلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ .