تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - عَنْ جَوَابِ شُبْهَةِ " الْمُعْتَزِلَةِ " فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ ؟ ادَّعَوْا أَنَّ " صِفَاتِ الْبَارِي لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهِ " لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقُومَ وُجُودُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِهَا عَدَمُهُ أَوْ لَا فَإِنْ يَقُمْ فَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُودُهُ بِهَا وَصَارَ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ إلَّا بِمَجْمُوعِهَا وَالْمُرَكَّبُ مَعْلُولٌ ; وَإِنْ كَانَ لَا يَقُومُ وُجُودُهُ بِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِهَا عَدَمُهُ فَهِيَ عَرَضِيَّةٌ وَالْعَرَضُ مَعْلُولٌ ; وَهُمَا عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ ; فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي غَيْرُ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ
1
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ : الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَهُ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَعِزَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وَقَوْلِهِ { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } . وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ } " وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي } " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " لَا وَعِزَّتِك " وَهَذَا كَثِيرٌ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ - وَهُوَ إمَامٌ - فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا ; لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ : أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَسْمِيَتِهَا صِفَةَ الرَّحْمَنِ . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ . فَثَبَتَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُخْبَرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ فَإِنَّ الْوَصْفَ هُوَ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ لِلْبَصَرِ أَوْ السَّمْعِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ ثَوْبٌ يَصِفُ الْبَشَرَةَ أَوْ لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } وَقَالَ : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا تَنْعَتُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا } " وَالنَّعْتُ الْوَصْفُ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَ " الصِّفَةُ " مَصْدَرُ وَصَفْت الشَّيْءَ أَصِفُهُ وَصْفًا وَصِفَةً مِثْلُ وَعَدَ وَعْدًا وَعِدَةً وَوَزَنَ وَزْنًا وَزِنَةً ; وَهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا يُسَمُّونَ الْمَخْلُوقَ خَلْقًا وَيَقُولُونَ : دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ فَإِذَا وُصِفَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا : سُمِّيَ الْمَعْنَى الَّذِي وُصِفَ بِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ صِفَةً . فَيُقَالُ لِلرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ : صِفَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هَذَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ " الْمُعْتَزِلَةِ " وَنَحْوِهِمْ يَقُولُونَ : الْوَصْفُ وَالصِّفَةُ اسْمٌ لِلْكَلَامِ فَقَطْ ; مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ مَعَانٍ ; وَكَثِيرٌ مِنْ " مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية " يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالصِّفَةِ فَيَقُولُونَ : الْوَصْفُ هُوَ الْقَوْلُ وَالصِّفَةُ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْمَوْصُوفِ ; وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ تَارَةً وَعَلَى الْمَعْنَى أُخْرَى . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ قَدْ صَرَّحَا بِثُبُوتِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَغَيْرُهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا لَفْظُ " الذَّاتِ " فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ تَأْنِيثُ ذُو وَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ مُضَافًا إلَى أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى الْوَصْفِ بِذَلِكَ . فَيُقَالُ : شَخْصٌ ذُو عِلْمٍ وَذُو مَالٍ وَشَرَفٍ وَيَعْنِي حَقِيقَتَهُ ; أَوْ عَيْنٌ أَوْ نَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَسُلْطَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ يُضَافُ إلَى الْأَعْلَامِ كَقَوْلِهِمْ ذُو عَمْرٍو وَذُو الْكُلَاعِ وَقَوْلِ عُمَرَ : الْغَنِيُّ بِلَالٌ وَذَوُوهُ . فَلَمَّا وَجَدُوا اللَّهَ قَالَ فِي الْقُرْآنِ [ { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } ] [ { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } ] وَ [ { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } ] : وَصَفُوهَا . فَقَالُوا : نَفْسٌ ذَاتُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَرَحْمَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ حَذَفُوا الْمَوْصُوفَ وَعَرَّفُوا الصِّفَةَ . فَقَالُوا : الذَّاتُ . وَهِيَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ ; لَيْسَتْ قَدِيمَةً وَقَدْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ لَكِنْ بِمَعْنَى آخَرَ مِثْلَ قَوْلِ خبيب الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ } " وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ : كُلُّنَا أَحْمَقُ فِي ذَاتِ اللَّهِ . وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ : أُصِبْنَا فِي ذَاتِ اللَّهِ . وَالْمَعْنَى فِي جِهَةِ اللَّهِ وَنَاحِيَتِهِ ; أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِابْتِغَاءِ وَجْهِهِ ; لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ النَّفْسَ . وَنَحْوُهُ فِي الْقُرْآنِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وَقَوْلُهُ : { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أَيْ الْخَصْلَةِ وَالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ بَيْنِكُمْ وَعَلِيمٌ بِالْخَوَاطِرِ وَنَحْوِهَا الَّتِي هِيَ صَاحِبَةُ الصُّدُورِ . فَاسْمُ " الذَّاتِ " فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَةِ : بِهَذَا الْمَعْنَى . ثُمَّ أَطْلَقَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى " النَّفْسِ " بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا صَاحِبَةُ الصِّفَاتِ . فَإِذَا قَالُوا الذَّاتُ فَقَدْ قَالُوا الَّتِي لَهَا الصِّفَاتُ . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَغَيْرِ مَرْفُوعٍ " { تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ ; وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ } " فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ أَوْ نَظِيرُهُ ثَابِتًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ : فَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِهِمْ إطْلَاقُ اسْمِ " الذَّاتِ " عَلَى النَّفْسِ كَمَا يُطْلِقُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ . وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ يَبْقَى " كَالْحَرَكَةِ " وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَقَائِهَا كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَبْقَى . وَهَؤُلَاءِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ ; فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِصِفَاتِ اللَّهِ عَلَى حُدُوثِ الْمَوْصُوفِ أَوْلَى وَأَحْرَى مَعَ أَنَّ " هَذِهِ الْحُجَّةَ " عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ فِيهَا نَظَرٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَهَكَذَا أَيْضًا يُقَالُ لِلْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ مُبْدِئٌ لِلْعَالَمِ وَسَبَبٌ لِوُجُودِهِ وَيَذْكُرُونَ لَهُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْعِنَايَةِ أُمُورًا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إثْبَاتِهَا . فَالْكَلَامُ فِيمَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالْكَلَامِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ لِجَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ بِالِاضْطِرَارِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ . فَإِذَا كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ فَكَذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِنَفْسِهِ مِنْ الصِّفَاتِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَسْتَحِقُّهُ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ جَوْهَرًا قَامَ بِهِ عَرَضٌ مُحْدَثٌ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْجَوْهَرِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا قَامَ بِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ عَرَضًا إلَّا إذَا اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا . فَإِنَّهُ إذَا سَاغَ لِقَائِلِ أَنْ لَا يُسَمِّيَ بَعْضَ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا : سَاغَ لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يُسَمِّيَ بَعْضَ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عَرَضًا ; بَلْ نَفْيُ الْعَرَضِ عَنْ الْمَعَانِي الْبَاقِيَةِ أَقْرَبُ إلَى اللُّغَةِ فَإِنْ سَمَّى الْمُسَمِّي كُلَّ مَا قَامَ بِغَيْرِهِ عَرَضًا سَاغَ حِينَئِذٍ أَنْ يُسَمِّيَ كُلَّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ جَوْهَرًا . وَحِينَئِذٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ عَرَضٍ وَصِفَةٍ عَلَى حُدُوثِ جَوْهَرِهِ وَمَوْصُوفِهِ : لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَرَضٍ وَصِفَةٍ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ جَوْهَرِهِ وَمَوْصُوفِهِ ; وَلَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَبَطَلَ قَوْلُهُمْ بِحُدُوثِ جَمِيعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ لِدُخُولِ الْقَدِيمِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ; بَلْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِإِمْكَانِ شَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ الْجَوَابُ مِنْ طَرِيقَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ الْمُعَارَضَةِ وَالْإِلْزَامِ وَمِنْ جِهَةِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْإِفْسَادِ . وَتَبَيَّنَ بِالْوَجْهَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فَاسِدَةٌ عَلَى أُصُولِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَفَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا نَفْيُهَا وَمَا لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِهِ نَفْيُهُ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ . وَ ( الطَّرِيقُ الثَّانِي : مِنْ جِهَةِ الْحَلِّ وَالْبَيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ شُبْهَةُ " التَّرْكِيبِ " وَهِيَ فَلْسَفِيَّةٌ مُعْتَزِلِيَّةٌ وَالْأُولَى مُعْتَزِلِيَّةٌ مَحْضَةٌ - فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَجْعَلُونَ أَخَصَّ وَصْفِهِ الْقَدِيمَ وَيُثْبِتُونَ حُدُوثَ مَا سِوَاهُ . وَالْفَلَاسِفَةُ يَجْعَلُونَ أَخَصَّ وَصْفِهِ وُجُوبَ وُجُودِهِ بِنَفْسِهِ وَإِمْكَانَ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِالْحُدُوثِ عَنْ عَدَمٍ وَيَجْعَلُونَ " التَّرْكِيبَ " الَّذِي ذَكَرُوهُ مُوجِبًا لِلِافْتِقَارِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ . ( فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : مُشْتَمِلٌ عَلَى فَنَّيْنِ : الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ وَ ( الثَّانِي الْحَلُّ . ( أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَهُ عَالِمًا قَادِرًا وَيُثْبِتُونَهُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ فَاعِلًا لِغَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَفْهُومَ كَوْنِهِ عَالِمًا غَيْرُ مَفْهُومِ الْفِعْلِ لِغَيْرِهِ ; فَإِنْ كَانَتْ ذَاتُهُ مُرَكَّبَةً مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَزِمَ " التَّرْكِيبُ " الَّذِي ادَّعَوْهُ ; وَإِنْ كَانَتْ عَرَضِيَّةً لَزِمَ " الِافْتِقَارُ " الَّذِي ادَّعَوْهُ . وَ ( بِالْجُمْلَةِ فَمَا قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ : فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . وَأَمَّا " الْمُنَاقَضَةُ " : فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ بِصِفَةِ ثُبُوتِيَّةٍ فَلَا وَاجِبَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ التَّرْكِيبِ مُحَالٌ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إنَّمَا نَفَوْا الْمَعَانِيَ لِاسْتِلْزَامِهَا ثُبُوتَ " التَّرْكِيبِ " الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ ; فَإِنَّ نَفْيَ الْمَعَانِي مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ ; فَكَيْفَ يَنْفُونَهَا لِثُبُوتِهِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ حَقٌّ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ فَاعِلٌ ; وَالْمُمْكِنُ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودًا عَالِمًا قَادِرًا فَاعِلًا . وَلَيْسَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ ; بَلْ فِي مَعَانٍ مَعْقُولَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالِاضْطِرَارِ . فَإِنْ كَانَ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ مُسْتَلْزِمًا لِمَا بِهِ الِامْتِيَازُ : فَقَدْ صَارَ الْوَاجِبُ مُمْكِنًا وَالْمُمْكِنُ وَاجِبًا ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا : فَقَدْ صَارَ لِلْوَاجِبِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الْمُمْكِنِ غَيْرُ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ ; فَصَارَ فِيهِ جِهَةُ اشْتِرَاكٍ وَجِهَةُ امْتِيَازٍ ; وَهَذَا عِنْدَهُمْ " تَرْكِيبٌ " مُمْتَنِعٌ . فَإِنْ كَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الْوَاجِبِ فَقَدْ صَارَ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِهِ ; وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ . فَثَبَتَ بِهَذَا " الْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ " أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ مُتَنَاقِضَةٌ فِي نَفْسِهَا كَمَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ عَلَى أُصُولِهِمْ لِمَا أَثْبَتُوهُ . وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي هُوَ الْحَلُّ . فَنَقُولُ : " التَّرْكِيبُ " الْمَعْقُولُ فِي عَقْلِ بَنِي آدَمَ وَلُغَةِ الْآدَمِيِّينَ هُوَ تَرْكِيبُ الْمَوْجُودِ مِنْ أَجْزَائِهِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَهُوَ تَرْكِيبُ الْجِسْمِ مِنْ أَجْزَائِهِ كَتَرْكِيبِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَأَخْلَاطِهِ وَتَرْكِيبِ الثَّوْبِ مِنْ أَجْزَائِهِ وَتَرْكِيبِ الشَّرَابِ مِنْ أَجْزَائِهِ ; وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ كَانْفِصَالِ الْيَدِ عَنْ الرِّجْلِ أَوْ شَائِعًا فِيهِ كَشِيَاعِ الْمَرَّةِ فِي الدَّمِ وَالْمَاءِ فِي اللَّبَنِ . وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ " الْمَنْطِقِيُّونَ " مِنْ تَرْكِيبِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ : كَتَرْكِيبِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيَوَانٍ وَنَاطِقٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ وَمِمَّا بِهِ امْتِيَازُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَتَقْسِيمُهُمْ الصِّفَاتِ إلَى " ذَاتِيٍّ " تَتَرَكَّبُ مِنْهُ الْحَقَائِقُ وَهُوَ الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ ; وَإِلَى " عَرَضِيٍّ " وَهُوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ وَالْخَاصَّةُ . ثُمَّ الْحَقِيقَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُمَيَّزِ : هِيَ " النَّوْعُ " . فَنَقُولُ : هَذَا " التَّرْكِيبُ " أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ ذِهْنِيٌّ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ ; كَمَا أَنَّ " ذَاتَ النَّوْعِ " مِنْ حَيْثُ هِيَ عَامَّةٌ لَيْسَ لَهَا ثُبُوتٌ فِي الْخَارِجِ بَلْ نَفْسُ الْحَقَائِقِ الْخَارِجَةِ لَيْسَ فِيهَا عُمُومٌ خَارِجِيٌّ وَلَا تَرْكِيبٌ خَارِجِيٌّ كَمَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ " الْمَعْدُومِ " : إنَّهُ شَيْءٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ ; لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ بِهِ . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ فِيهِ ذَوَاتٌ مُتَمَيِّزَةٌ بَعْضُهَا حَيَوَانِيَّةٌ وَبَعْضُهَا ناطقية وَبَعْضُهَا ضاحكية وَبَعْضُهَا حَسَّاسِيَّةٌ ; بَلْ الْعَقْلُ يُدْرِكُ مِنْهُ مَعْنًى وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتٌ لِنَوْعِ آخَرَ . فَيَقُولُ فِيهِ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ وَيُدْرِكُ فِيهِ مَعْنًى مُخْتَصًّا ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ . فَيَقُولُ : هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْهُمَا ثُمَّ إذَا أَدْرَكَ فِيهِ الْمَعْنَيَيْنِ : لَمْ يُدْرِكْ أَنَّ أَحَدَهُمَا فِيهِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ مُنْفَصِلٌ ; كَمَا أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْوُجُودَ وَالْوُجُوبَ وَالْقِيَامَ بِالنَّفْسِ وَالْإِقَامَةَ لِلْغَيْرِ : لَمْ يُدْرِكْ أَحَدَ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنْفَصِلًا عَنْ الْآخَرِ مُتَمَيِّزًا عَنْهُ . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ وَالرِّيحَ الْقَائِمَةَ بِالْجِسْمِ : لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِمَحَالِّهَا ; وَإِنَّمَا الْحِسُّ يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ . فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ " التَّرْكِيبِ " : لَيْسَ مِنْ جِنْسِ تَرْكِيبِ الْجَسَدِ مِنْ أَبْعَاضِهِ وَأَخْلَاطِهِ ; فَلَيْسَتْ الْأَبْعَاضُ كَالْأَعْرَاضِ وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا مُرَكَّبًا فَإِنَّ هَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . وَلَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ : لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التَّرْكِيبِ الَّذِي يَعْقِلُهُ بَنُو آدَمَ بِالْفِطْرَةِ الْأُولَى حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأَجْزَاءِ . إذَا عُرِفَ هَذَا : كَانَ الْجَوَابُ مِنْ فَنَّيْنِ فِي الْحَلِّ ; كَمَا كَانَ مَنْ فَنَّيْنِ فِي الْإِبْطَالِ . ( أَحَدُهُمَا : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هُنَاكَ تَرَكُّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ بِحَالِ وَإِنَّمَا هِيَ ذَاتٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلَوَازِمِهَا الَّتِي لَا يَصِحُّ وُجُودُهَا إلَّا بِهَا ; وَلَيْسَتْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ أَجْزَاءً لَهُ وَلَا أَبْعَاضًا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ أَوْ تَتَمَيَّزُ عَنْهُ ; حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُ أَوْ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً . فَثُبُوتُ التَّرْكِيبِ وَنَفْيُهُ فَرْعُ تَصَوُّرِهِ وَتَصَوُّرُهُ هُنَا مُنْتَفٍ . ( وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا يُسَمَّى مُرَكَّبًا : فَلَيْسَ هَذَا مُسْتَلْزِمًا لِلْإِمْكَانِ وَلَا لِلْحُدُوثِ . وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي عُلِمَ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى فَقِيرًا إلَى خَلْقِهِ ; بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهِ وَمَوْجُودَةٌ بِذَاتِهِ وَأَنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ لَيْسَ ثُبُوتُهُ وَغِنَاهُ مُسْتَفَادًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ حَقًّا صَمَدًا قَيُّومًا فَهَلْ يُقَالُ فِي ذَلِكَ إنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ أَوْ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَا تَقُومُ إلَّا بِنَفْسِهِ ؟ فَالْقَوْلُ فِي " صِفَاتِهِ " الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى نَفْسِهِ هُوَ الْقَوْلُ فِي نَفْسِهِ . فَإِذَا قِيلَ صِفَاتُهُ ذَاتِيَّةٌ وَقِيلَ إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا : كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ هِيَ مَا لَا تَكُونُ النَّفْسُ بِدُونِهَا . وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا : ذَاتُهُ مُوجِبَةٌ لِوُجُودِهِ أَوْ هُوَ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ أَوْ هُوَ مُقْتَضٍ لِوُجُوبِهِ . فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا وَالْمَعْلُولُ مُفْتَقِرٌ قِيلَ لَهُ : لَيْسَتْ الْعِلَّةُ هُنَا غَيْرَ الْمَعْلُولِ وَالْمُنْتَفِي افْتِقَارُهُ إلَى غَيْرِهِ وَكَوْنُهُ مَعْلُولًا لِسِوَاهُ . وَأَمَّا قِيَامُهُ بِنَفْسِهِ فَحَقٌّ . ثُمَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ الَّتِي تُوهِمُ مَعْنًى فَاسِدًا : إنْ أُطْلِقَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ أَوْ لَمْ تُطْلَقْ بِحَالِ : لَمْ يَضُرّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ مَعْلُومًا لَا يَنْدَفِعُ . فَهَذَا الْمَعْنَى الشَّرِيفُ يَجِبُ التَّفَطُّنُ لَهُ فَإِنَّهُ يُزِيلُ شُبَهًا خَيَالِيَّةً أَضَلَّتْ خَلْقًا كَثِيرًا . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا " الْمَاهِيَّاتُ " مَجْعُولَةٌ : فَنَعْنِي بِذَلِكَ الْمَاهِيَّاتِ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ ; إذْ لَيْسَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ شَيْئًا غَيْرَ وُجُودِهِ وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ هُوَ الْمُفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا . فَالْمُرَكَّبُ فِي الْخَارِجِ : لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْفَاعِلِ لِكَوْنِهِ مُرَكَّبًا بَلْ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مُفْتَقِرَةٌ وَآنِيَّتَهُ مُضْطَرَّةٌ لَيْسَ لَهُ ثُبُوتٌ وَلَا وُجُودٌ وَلَا آنِيَّةٌ إلَّا مِنْ رَبِّهِ ; وَلِذَلِكَ افْتَقَرَ الْمُفْرَدُ إلَى الصَّانِعِ ; كَافْتِقَارِ الْمُرَكَّبِ . وَأَمَّا مَا يَعْلَمُهُ الْعَقْلُ مِنْ " الْمَاهِيَّاتِ " مُفْرَدِهَا وَمُرَكَّبِهَا : فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْفَاعِلِ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ عِلْمَ الْعَبْدِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ ; لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرَكَّبَ مُفْتَقِرٌ إلَى أَجْزَائِهِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْمُرَكَّبَ لَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَجْزَائِهِ ; لَا فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ إلَّا كَافْتِقَارِ الْمُفْرَدِ إلَى نَفْسِهِ ; فَجُزْءُ الْمُرَكَّبِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِ الْمُفْرَدِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ فِي الْخَارِجِ . فَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ : جَازَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى وَصْفِهِ أَوْ جُزْئِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ هَذَا . فَلَيْسَ وَصْفُ الْمَوْصُوفِ وَجُزْءُ الْمُرَكَّبِ - الَّذِي لَا تَقُومُ ذَاتُهُ إلَّا بِهِ - إلَّا بِمَنْزِلَةِ ذَاتِهِ وَلَيْسَ فِي قَوْلِنَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نَفْسِهِ مَا يَرْفَعُ وُجُوبَهُ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا . فَظَهَرَ الْخَلَلُ فِي كُلِّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّرْكِيبِ وَأَنَّ التَّرْكِيبَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَاجَةِ إلَى الْغَيْرِ وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةً : بَطَلَ هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .