مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ تيمية فَصْلٌ وَأَمَّا " الْحَشِيشَةُ " الْمَلْعُونَةُ الْمُسْكِرَةُ : فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُسْكِرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ; بَلْ كُلُّ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا : كَالْبَنْجِ فَإِنَّ الْمُسْكِرَ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ وَغَيْرَ الْمُسْكِرِ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ . وَأَمَّا قَلِيلُ " الْحَشِيشَةِ الْمُسْكِرَةِ " فَحَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَسَائِرِ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } يَتَنَاوَلُ مَا يُسْكِرُ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْكِرُ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا ; أَوْ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا . فَلَوْ اصْطَبَغَ كَالْخَمْرِ كَانَ حَرَامًا وَلَوْ أَمَاعَ الْحَشِيشَةَ وَشَرِبَهَا كَانَ حَرَامًا . وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَإِذَا قَالَ كَلِمَةً جَامِعَةً كَانَتْ عَامَّةً فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَعْيَانُ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ أَوْ مَكَانِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ . فَلَمَّا قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } تَنَاوَلَ ذَلِكَ مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ التَّمْرِ وَغَيْرِهَا وَكَانَ يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ مِنْ خَمْرِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ خَمْرِ لَبَنِ الْخَيْلِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ التُّرْكُ وَنَحْوُهُمْ . فَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ وَالْمُسْكِرِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَوْجُودًا فِي زَمَنِهِ كَانَ يَعْرِفُهُ وَالْآخَرُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ ; إذْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مَنْ يَتَّخِذُ خَمْرًا مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ . وَهَذِهِ " الْحَشِيشَةِ " فَإِنَّ أَوَّلَ مَا بَلَغَنَا أَنَّهَا ظَهَرَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَأَوَائِلِ السَّابِعَةِ حَيْثُ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التتر ; وَكَانَ ظُهُورُهَا مَعَ ظُهُورِ سَيْفِ " جنكسخان لَمَّا أَظْهَرَ النَّاسُ مَا نَهَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنْ الذُّنُوبِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْعَدُوَّ وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَشِيشَةُ الْمَلْعُونَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَهِيَ شَرٌّ مِنْ الشَّرَابِ الْمُسْكِرِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالْمُسْكِرُ شَرٌّ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا تُسْكِرُ آكِلَهَا حَتَّى يَبْقَى مصطولا تُورِثُ التَّخْنِيثَ والديوثة وَتُفْسِدُ الْمِزَاجَ فَتَجْعَلُ الْكَبِيرَ كَالسَّفْتَجَةِ وَتُوجِبُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ وَتُورِثُ الْجُنُونَ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ صَارَ مَجْنُونًا بِسَبَبِ أَكْلِهَا .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ . إنَّهَا تُغَيِّرُ الْعَقْلَ فَلَا تُسْكِرُ كَالْبَنْجِ ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تُورِثُ نَشْوَةً وَلَذَّةً وَطَرَبًا كَالْخَمْرِ وَهَذَا هُوَ الدَّاعِي إلَى تَنَاوُلِهَا وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا كَالشَّرَابِ الْمُسْكِرِ وَالْمُعْتَادُ لَهَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ فِطَامُهُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ الْخَمْرِ ; فَضَرَرُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَعْظَمُ مِنْ الْخَمْرِ ; وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ :
إنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ كَمَا يَجِبُ فِي الْخَمْرِ . وَتَنَازَعُوا فِي " نَجَاسَتِهَا " عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَقِيلَ هِيَ نَجِسَةٌ . وَقِيلَ : لَيْسَتْ بِنَجِسَةِ . وَقِيلَ : رُطَبُهَا نَجِسٌ كَالْخَمْرِ وَيَابِسُهَا لَيْسَ بِنَجِسِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ كَمَا تَتَنَاوَلُ النَّجَاسَةُ جَامِدَ الْخَمْرِ وَمَائِعَهَا فَمَنْ سَكِرَ مِنْ شَرَابٍ مُسْكِرٍ أَوْ حَشِيشَةٍ مُسْكِرَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قُرْبَانُ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَصْحُوَ وَلَا [ تَصِحُّ ] صَلَاتُهُ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقُولُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَغْسِلَ فَمَهُ وَيَدَيْهِ وَثِيَابَهُ فِي هَذَا وَهَذَا وَالصَّلَاةُ فَرْضُ عَيْنِيَّةٍ ; لَكِنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يَتُوبَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قِيلَ : وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ } وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ هَذِهِ مَا فِيهَا آيَةٌ وَلَا حَدِيثٌ : فَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ فِيهِمَا كَلِمَاتٌ جَامِعَةٌ هِيَ قَوَاعِدُ عَامَّةٌ وَقَضَايَا كُلِّيَّةٌ . تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا دَخَلَ فِيهَا وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِيهَا فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِاسْمِهِ الْعَامِّ وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُ كُلِّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَقَالَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } وَقَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } وَقَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فَاسْمُ " النَّاسِ " و " الْعَالَمِينَ " يَدْخُلُ فِيهِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنْ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ مُحَمَّدًا مَا أُرْسِلَ إلَى التُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي الْقُرْآنِ كَانَ جَاهِلًا كَمَا لَوْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِيَّ أَسَدٍ وغطفان وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْقَبَائِلَ بِأَسْمَائِهَا الْخَاصَّةِ ; وَكَمَا لَوْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَى أَبِي جَهْلٍ وعتبة وَشَيْبَةَ ; وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ الْخَاصَّةِ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } دَخَلَ فِي الْمَيْسِرِ الَّذِي لَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ الْمَيْسِرِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهِ بِالْعِوَضِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ ( الْمَيْسِرُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ ; وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . و " النَّرْدُ " أَيْضًا مِنْ ( الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ ; وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ بِاسْمِ خَاصٍّ ; بَلْ لَفْظُ الْمَيْسِرِ يَعُمُّهَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ مُحَرَّمَانِ بِعِوَضِ وَغَيْرِ عِوَضٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَوْلُهُ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } تَنَاوَلَ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي كَانُوا يَحْلِفُونَ بِهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّتِي صَارُوا يَحْلِفُونَ بِهَا بَعْدُ ; فَلَوْ حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالْهِنْدِيَّةِ وَالْبَرْبَرِيَّةِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَةِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ; وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ بِهَذِهِ اللُّغَاتِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ : كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ هِيَ شِرْكٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } يَعُمُّ كُلَّ مَا يُسَمَّى صَعِيدًا وَيَعُمُّ كُلَّ مَاءٍ : سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمِيَاهِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِمَّا حَدَثَ بَعْدَهُ . فَلَوْ اسْتَخْرَجَ قَوْمٌ عُيُونًا وَكَانَ فِيهَا مَاءٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ وَالرِّيحَ وَالطَّعْمِ وَأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَجَبَ الِاغْتِسَالُ بِهِ بِلَا نِزَاعٍ نَعْرِفُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمِيَاهُ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مُشْرِكٍ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِ الْعَرَبِ كَمُشْرِكِي التُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالْبَرْبَرِ ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ قُتِلُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ ; وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ قُتِلُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا عَلَى زَمَانِهِ كَانُوا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَالرُّومِ ; وَقَاتَلَ الْيَهُودَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ; وَقَدْ دَخَلَ فِيهَا النَّصَارَى : مِنْ الْقِبْطِ ; وَالْحَبَشَةِ ; والجركس وَالْأَلِّ وَاللَّاصِّ ; وَالْكَرَجِ ; وَغَيْرِهِمْ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ نَظِيرَ عُمُومِ الْقُرْآنِ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ . وَلَوْ قُدِّرَ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ وَكَانَ فِي مَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أُلْحِقَ بِهِ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ ; [ كَمَا ] دَخَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْفُرْسُ [ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ] و [ دَخَلَتْ ] جَمِيعُ الْمُسْكِرَاتِ فِي مَعْنَى خَمْرِ الْعِنَبِ وَأَنَّهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ ; لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ و ( الْكِتَابُ الْقُرْآنُ . و ( الْمِيزَانُ الْعَدْلُ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ مِنْ الْعَدْلِ ; لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ; بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَاسْتَوَتْ السَّيِّئَاتُ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ ; لَمْ يَخُصَّ أَحَدَهَا بِالتَّحْرِيمِ دُونَ الْآخَرِ ; بَلْ مِنْ الْعَدْلِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا كَانَ تَنَاقُضًا وَحُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ التَّنَاقُضِ . وَلَوْ أَنَّ الطَّبِيبَ حَمَى الْمَرِيضَ عَنْ شَيْءٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَأَبَاحَهُ لَهُ لَخَرَجَ عَنْ قَانُونِ الطِّبِّ . وَالشَّرْعُ طِبُّ الْقُلُوبِ وَالْأَنْبِيَاءُ أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ وَالْأَدْيَانِ وَلَا بُدَّ إذَا أَحَلَّ الشَّرْعُ شَيْئًا مِنْهُ أَنْ يُخَصَّ هَذَا بِمَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا حَتَّى يَكُونَ [ فِيهِ ] مَعْنَى خَاصٌّ بِمَا حَرَّمَهُ دُونَ مَا أَحَلَّهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .