وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْوُجُودِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ لَهُ نَجْمًا فِي السَّمَاءِ يَسْعَدُ بِسَعَادَتِهِ وَيَشْقَى بِعَكْسِهِ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } وَبِقَوْلِهِ : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } وَيَقُولُ : إنَّهَا صَنْعَةُ إدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ نَجْمَهُ كَانَ بِالْعَقْرَبِ وَالْمِرِّيخِ . فَهَلْ هَذَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا ؟ وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الدِّينِ : فَمَاذَا يَجِبُ عَلَى قَائِلِهِ ؟ وَالْمُنْكِرُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ يَكُونُونَ مِنْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ ; وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ : النُّجُومُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ الْمُسَبِّحَةِ لَهُ السَّاجِدَةِ لَهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } ثُمَّ قَالَ : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } وَهَذَا التَّفْرِيقُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ السُّجُودَ لِمُجَرَّدِ مَا فِيهَا مِنْ الدِّلَالَةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ ; إذْ هَذِهِ الدِّلَالَةُ ; يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ ; فَجَمِيعُ النَّاسِ فِيهِمْ هَذِهِ الدِّلَالَةُ ; وَهُوَ قَدْ فَرَّقَ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ زَائِدٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الْكَافِرِ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِعِبَادِهِ وَسَخَّرَهَا لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } وَقَالَ : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَمِنْ مَنَافِعِهَا الظَّاهِرَةِ مَا يَجْعَلُهُ سُبْحَانَهُ بِالشَّمْسِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَنِضَاجِ الثِّمَارِ وَخَلْقِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ ; وَكَذَلِكَ مَا يَجْعَلُهُ بِهَا لَهُمْ مِنْ التَّرْطِيبِ وَالتَّيْبِيسِ ; وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَشْهُودَةِ كَمَا جَعَلَ فِي النَّارِ الْإِشْرَاقَ وَالْإِحْرَاقَ وَفِي الْمَاءِ التَّطْهِيرَ وَالسَّقْيَ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا فِي كِتَابِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَجْعَلُ حَيَاةَ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ بِبَعْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا } وَكَمَا قَالَ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } وَكَمَا قَالَ : { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } . فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَهَا ; لَا بِهَا . فَعِبَارَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَالْأُمُورِ الْمَشْهُودَةِ ; كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْفِعْلِ هُوَ مُشْرِكٌ مُخَالِفٌ الْعَقْلَ وَالدِّينَ . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ مَنَافِعَ النُّجُومِ فَإِنَّهُ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُرْجَمُ بِالنُّجُومِ وَإِنْ كَانَتْ النُّجُومُ الَّتِي تُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ غَيْرَ النُّجُومِ الثَّابِتَةِ فِي السَّمَاءِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا ; فَإِنَّ هَذِهِ لَا تَزُولُ عَنْ مَكَانِهَا ; بِخِلَافِ تِلْكَ ; وَلِهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُخَالِفَةٌ لِتِلْكَ ; وَإِنْ كَانَ اسْمُ النُّجُومِ يَجْمَعُهَا ; كَمَا يَجْمَعُ اسْمَ الدَّابَّةِ وَالْحَيَوَانِ لِلْمَلَكِ وَالْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ وَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ; وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَقَالَ : { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } " وَفِي رِوَايَةٍ " { آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ } " هَذَا قَالَهُ رَدًّا لِمَا قَالَهُ بَعْضُ جُهَّالِ النَّاسِ : إنَّ الشَّمْسَ كَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا كَسَفَتْ يَوْمَ مَوْتِهِ وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ لَمَّا كَسَفَتْ أَنَّ كُسُوفَهَا كَانَ لِأَجْلِ مَوْتِهِ وَأَنَّ مَوْتَهُ هُوَ السَّبَبُ لِكُسُوفِهَا كَمَا يَحْدُثُ عَنْ مَوْتِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مَصَائِبُ فِي النَّاسِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَكُونُ كُسُوفُهُمَا عَنْ مَوْتِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا عَنْ حَيَاتِهِ : وَنَفَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ أَثَرًا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يُخَوِّفُ عِبَادَهُ . فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ تَخْوِيفُ الْعِبَادِ ; كَمَا يَكُونُ تَخْوِيفُهُمْ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ : كَالرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ وَالزَّلَازِلِ وَالْجَدْبِ وَالْأَمْطَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ عَذَابًا كَمَا عَذَّبَ اللَّهُ أُمَمًا بِالرِّيحِ وَالصَّيْحَةِ وَالطُّوفَانِ وَقَالَ تَعَالَى : { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } وَقَدْ قَالَ : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا } وَإِخْبَارَهُ بِأَنَّهُ يُخَوِّفُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِ يَنْزِلُ كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ الشَّدِيدَةِ . وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَا يَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ . فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : إنَّ لَهَا تَأْثِيرًا . مَا قَدْ عُلِمَ بِالْحِسِّ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهَذَا حَقٌّ ; وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي تَدْفَعُ عَنَّا مَا يُرْسَلُ بِهِ مِنْ الشَّرِّ كَمَا أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْخُسُوفِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ وَكَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ هُبُوبِهَا : " { اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك خَيْرَ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ } " وَقَالَ : " { إنَّ الرِّيحَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَإِنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَلَا تَسُبُّوهَا ; وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا } " فَأَخْبَرَ أَنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ . وَأَمَرَ أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَنَعُوذَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا . فَهَذِهِ السُّنَّةُ فِي أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ : أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَسْبَابِ الْخَيْرِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يَجْلِبُ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ وَعِنْدَ أَسْبَابِ الشَّرِّ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ الشَّرَّ فَأَمَّا مَا يَخْفَى مِنْ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا بِأَنْ يَتَكَلَّفَ مَعْرِفَتَهُ ; بَلْ إذَا فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا حَظَرَ : كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ الشَّرِّ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَ الْخَيْرِ { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيمَنْ يَتَعَاطَى السِّحْرَ لِجَلْبِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ اعْتَاضَ بِذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ; وَإِنَّمَا يَرْجُو بِزَعْمِهِ نَفْعَهُ فِي فِي الدُّنْيَا . كَمَا يَرْجُونَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ السِّحْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا مِثْلَ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ . ثُمَّ قَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى هُمَا خَيْرٌ لَهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } الْآيَةُ وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ أَجْرَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِمَّا يُعْطَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُلْكِ وَالْمَالِ كَمَا أُعْطِيَ يُوسُفُ . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِسُوءِ عَاقِبَةِ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى فِي غَيْرِ آيَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } وَالْمُفْلِحُ الَّذِي يَنَالُ الْمَطْلُوبَ وَيَنْجُو مِنْ الْمَرْهُوبِ . فَالسَّاحِرُ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ وَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ النُّجُومِ فَقَدْ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ } " و " السِّحْرُ " مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ : وَذَلِكَ أَنَّ النُّجُومَ الَّتِي مِنْ السِّحْرِ نَوْعَانِ " أَحَدُهُمَا " عِلْمِيٌّ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحَرَكَاتِ النُّجُومِ عَلَى الْحَوَادِثِ ; مِنْ جِنْسِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ . الثَّانِي عَمَلِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُونَ إنَّهُ الْقُوَى السَّمَاوِيَّةُ بِالْقُوَى الْمُنْفَعِلَةِ الْأَرْضِيَّةِ : كَطَلَاسِمَ وَنَحْوِهَا وَهَذَا مِنْ أَرْفَعِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ . وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَضَرَرُهُ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِهِ فَالثَّانِي وَإِنَّ تَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّ فِيهِ تَقَدُّمَةً لِلْمَعْرِفَةِ بِالْحَوَادِثِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ . فَالْجَهْلُ فِي ذَلِكَ أَضْعَفُ وَمَضَرَّةُ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ ; وَلِهَذَا قَدْ عَلِمَ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي يَحْكُمُ بِهَا الْمُنَجِّمُونَ يَكُونُ الْكَذِبُ فِيهَا أَضْعَافُ الصِّدْقِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُهَّانِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : { إنْ مِنَّا قَوْمًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ فَقَالَ : إنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ فَيَكُونُ حَقًّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَسْمَعُهَا الْجِنِّيُّ يُقِرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ } " وَأَخْبَرَ " { أَنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْأَمْرِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانَ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا : الْحَقَّ . وَأَنَّ كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ يُخْبِرُونَ أَهْلَ السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهِمْ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَهُنَاكَ مُسْتَرِقَةُ السَّمْعِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ فَرُبَّمَا سَمِعَ الْكَلِمَةَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الشِّهَابُ وَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ بَعْدَ أَنْ يُلْقِيَهَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ أَتَوْا بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ ; وَلَكِنْ يَزِيدُونَ فِي الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ } " . وَهَكَذَا " الْمُنَجِّمُونَ " حَتَّى إنِّي خَاطَبْتهمْ بِدِمَشْقَ وَحَضَرَ عِنْدِي رُؤَسَاؤُهُمْ . وَبَيَّنْت فَسَادَ صِنَاعَتِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّتِهَا قَالَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ : وَاَللَّهِ إنَّا نَكْذِبُ مِائَةَ كِذْبَةٍ حَتَّى نَصْدُقَ فِي كَلِمَةٍ . وَذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى عِلْمِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةَ هِيَ السَّبَبُ فِي الْحَوَادِثِ وَالْعِلْمُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُلِمَ السَّبَبُ التَّامُّ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ حُكْمُهُ وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مَا يَعْلَمُونَ - إنْ عَلِمُوا - جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ وَلَا يَعْلَمُونَ بَقِيَّةَ الْأَسْبَابِ وَلَا الشُّرُوطَ وَلَا الْمَوَانِعَ مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الصَّيْفِ تَعْلُو الرَّأْسَ حَتَّى يَشْتَدَّ الْحَرُّ فَيُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ هَذَا - مَثَلًا - أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْعِنَبَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ الْفُلَانِيَّةِ يَصِيرُ زَبِيبًا ; عَلَى أَنَّ هُنَاكَ عِنَبًا وَأَنَّهُ يَنْضَجُ وَيَنْشُرُهُ صَاحِبُهُ فِي الشَّمْسِ وَقْتَ الْحَرِّ فَيَتَزَبَّبُ . فَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَقَعُ كَثِيرًا ; لَكِنَّ أَخْذَ هَذَا مِنْ مُجَرَّدِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ جَهْلٌ عَظِيمٌ إذْ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ عِنَبٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ ; وَقَدْ يُثْمِرُ ذَلِكَ الشَّجَرُ إنْ خُدِمَ وَقَدْ لَا يُثْمِرُ وَقَدْ يُؤْكَلُ عِنَبًا وَقَدْ يُعْصَرُ وَقَدْ يُسْرَقُ وَقَدْ يُزَبَّبُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَالدِّلَالَةُ الدَّالَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ وَتَحْرِيمِهَا كَثِيرَةٌ ; وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا } " و " الْعَرَّافُ " قَدْ قِيلَ إنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرِّمَالِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي تَقَدُّمِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ وَلَوْ قِيلَ : إنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَسَائِرُهَا يَدْخُلُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِمَا . وَأَمَّا إنْكَارُ بَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ ; وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا ; فَإِنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ تَعَوَّذِي بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَهَذَا الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ } " وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ حَيْثُ أَخْبَرَ " { أَنَّ اللَّهَ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ } " وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } " أَيْ لَا يَكُونُ الْكُسُوفُ مُعَلَّلًا بِالْمَوْتِ فَهُوَ نَفْيُ الْعِلَّةِ الْفَاعِلَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ رُمِيَ بِنَجْمِ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ : " { مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالُوا : كُنَّا نَقُولُ : وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى بِالْأَمْرِ سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ } " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي مُسْتَرِقِ السَّمْعِ . فَنَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ الرَّمْيُ بِهَا لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ ; بَلْ لِأَجْلِ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقِينَ السَّمْعَ . فَفِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ مِنْ أَنَّ مَوْتَ النَّاسِ وَحَيَاتَهُمْ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَلَا الرَّمْيَ بِالنَّجْمِ ; وَإِنْ كَانَ مَوْتُ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ يَقْتَضِي حُدُوثَ أَمْرٍ فِي السَّمَوَاتِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ " { إنَّ الْعَرْشَ عَرْشَ الرَّحْمَنِ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ } " وَأَمَّا كَوْنُ الْكُسُوفِ أَوْ غَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحَادِثِ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَذَابٍ يَقْتَضِي مَوْتًا أَوْ غَيْرِهِ : فَهَذَا قَدْ أَثْبَتَهُ الْحَدِيثُ نَفْسُهُ . وَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُنَافَى لِكَوْنِ الْكُسُوفِ لَهُ وَقْتٌ مَحْدُودٌ يَكُونُ فِيهِ حَيْثُ لَا يَكُونُ كُسُوفُ الشَّمْسِ إلَّا فِي آخِرِ الشَّهْرِ لَيْلَةَ السِّرَارِ وَلَا يَكُونُ خُسُوفُ الْقَمَرِ إلَّا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ وَلَيَالِي الْإِبْدَارِ . وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ أَوْ الْعَامَّةِ فَلِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحِسَابِ وَلِهَذَا يُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِنْ الْكُسُوفِ وَمَا يَسْتَقْبِلُ كَمَا يُمْكِنُ الْمَعْرِفَةُ بِمَا مَضَى مِنْ الْأَهِلَّةِ وَمَا يَسْتَقْبِلُ إذْ كُلُّ ذَلِكَ بِحِسَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } وَقَالَ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } . وَمِنْ هُنَا صَارَ بَعْضُ الْعَامَّةِ إذَا رَأَى الْمُنَجِّمَ قَدْ أَصَابَ فِي خَبَرِهِ عَنْ الْكُسُوفِ الْمُسْتَقْبَلِ يَظُنُّ أَنَّ خَبَرَهُ عَنْ الْحَوَادِثِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ; فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ إذْ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهِ بِأَنَّ الْهِلَالَ يَطْلُعُ : إمَّا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ وَإِمَّا لَيْلَةَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ لَا يُخْرَمُ أَبَدًا ; وَبِمَنْزِلَةِ خَبَرِهِ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ آخِرَ النَّهَارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَمَنْ عَرَفَ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَجَارِيَهُمَا عَلِمَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِلْمًا قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ . فَإِذَا كَانَ الْكُسُوفُ لَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَجَلِهِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ سَبَبًا لِمَا يَقْضِيهِ مِنْ عَذَابٍ وَغَيْرِهِ لِمَنْ يُعَذِّبُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُنْزِلُ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ تَعْذِيبَ اللَّهِ لِمَنْ عَذَّبَهُ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ كَقَوْمِ عَادٍ كَانَتْ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ وَهُوَ آخِرُ الشِّتَاءِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ ; وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا رَأَى مُخِيلَةً - وَهُوَ السَّحَابُ الَّذِي يُخَالُ فِيهِ الْمَطَرُ - أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ : إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا مُخِيلَةً اسْتَبْشَرُوا ؟ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ وَمَا يُؤَمِّنُنِي ؟ قَدْ رَأَى قَوْمُ عَادٍ الْعَذَابَ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } } وَكَذَلِكَ الْأَوْقَاتُ الَّذِي يُنْزِلُ اللَّهُ فِيهَا الرَّحْمَةَ كَالْعَشَرِ الْآخِرَةِ مِنْ رَمَضَانَ وَالْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَكَجَوْفِ اللَّيْلِ ; وَغَيْرِ ذَلِكَ هِيَ أَوْقَاتٌ مَحْدُودَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ وَيَنْزِلُ فِيهَا مِنْ الرَّحْمَةِ مَا لَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِهَا . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَحَادِيثِ الْكُسُوفِ مَا رَوَاهُ ابْنُ ماجه وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا تَجَلَّى لِشَيْءِ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ } " وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو حَامِدٍ وَنَحْوُهُ وَرَدُّوا ذَلِكَ ; لَا مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّهُمْ قَلِيلُو الْمَعْرِفَةِ بِهِ كَمَا كَانَ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ : أَنَا مُزْجَى الْبِضَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ سَبَبَ الْكُسُوفِ إذَا كَانَ - مَثَلًا - كَوْنَ الْقَمَرِ إذَا حَاذَاهَا مَنَعَ نُورَهَا أَنْ يَصِلَ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَ ذَلِكَ بِالتَّجَلِّي . وَالتَّجَلِّي الْمَذْكُورُ لَا يُنَافِي السَّبَبَ الْمَذْكُورَ ; فَإِنَّ خُشُوعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِلَّهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إذَا حَصَلَ لِنُورِهِ مَا يَحْصُلُ مِنْ انْقِطَاعٍ يَرْفَعُ تَأْثِيرَهُ عَنْ الْأَرْضِ ; وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ سُلْطَانِهِ وَمَوْضِعِ انْتِشَارِهِ وَتَأْثِيرِهِ ; فَإِنَّ الْمَلِكَ الْمُتَصَرِّفَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ لَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لَذَلَّ لِذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } فَالْمُدَبِّرَاتُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ . وَأَمَّا إقْسَامُ اللَّهِ بِالنُّجُومِ كَمَا أَقْسَمَ بِهَا فِي قَوْلِهِ : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } فَهُوَ كَإِقْسَامِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ كَمَا أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : يَقْتَضِي تَعْظِيمَ قَدْرِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْعِبْرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ ; وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْقُلُوبُ بِهِ أَوْ يُظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْعِدُ الْمُنْحِسُ كَمَا لَا يُظَنَّ ذَلِكَ فِي { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } { وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى } وَفِي { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } { فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا } وَفِي { وَالطُّورِ } { وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَاعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ نَجْمًا مِنْ النُّجُومِ السَّبْعَةِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِسَعْدِهِ وَنَحْسِهِ اعْتِقَادُهُ فَاسِدٌ [ وَأَنَّ الْمُعْتَقِدَ ] أَنَّهُ هُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ : فَهُوَ كَافِرٌ . وَكَذَلِكَ إنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ دُعَاؤُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ كَانَ كُفْرًا ; وَشِرْكًا مَحْضًا وَغَايَةُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ أَنْ يَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هُنَا الْوَلَدَ حِينَ وُلِدَ بِهَذَا الطَّالِعِ . وَهَذَا الْقَدْرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْمَوْلُودِ ; بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ . وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجِبُ مَا ذُكِرَ ; بَلْ مَا عُلِمَ حَقِيقَةً تَأْثِيرُهُ فِيهِ مِثْلُ حَالِ الْوَالِدَيْنِ وَحَالِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ مَحْسُوسٌ فِي أَحْوَالِ الْمَوْلُودِ ; وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هَذَا مُسْتَقِلًّا . ثُمَّ إنَّ الْأَوَائِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ الْمُشْرِكِينَ الصَّابِئِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ قَدْ قِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا إذَا وَلَدَ لَهُمْ الْمَوْلُودَ أَخَذُوا طَالِع الْمَوْلُودِ وَسَمَّوْا الْمَوْلُودَ بِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا كَبُرَ سُئِلَ عَنْ اسْمِهِ أَخْذ السَّائِلِ حَالَ الطَّالِع . فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الطَّرْقِيَّة يَسْأَلُونَ الرَّجُلَ عَنْ اسْمِهِ وَاسْم أُمِّهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَالَة عَلَى أَحْوَالِهِ وَهَذِهِ ظُلُمَات بَعْضهَا فَوْقَ بَعْض مُنَافِيَة لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ . وَأَمَّا اخْتِيَارَاتُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الطَّالِع لِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ : مِثْلَ اخْتِيَارَاتِهِمْ لِلسَّفَرِ أَنْ يَكُونَ الْقَمَر فِي شَرَفِهِ وَهُوَ " السَّرَطَانُ " وَأَلَّا يَكُونَ فِي هُبُوطِهِ وَهُوَ " الْعَقْرَبُ " فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْمَذْمُومِ . وَلَمَّا أَرَادَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَنْ يُسَافِرَ لِقِتَالِ الْخَوَارِج عَرْض لَهُ مُنَجِّم فَقَالَ : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لَا تُسَافِرُ ; فَإِنَّ الْقَمَرَ فِي الْعَقْرَبِ ; فَإِنَّك إنْ سَافَرْت وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَبِ هَزَمَ أَصْحَابك - أَوْ كَمَا قَالَ - فَقَالَ عَلَيَّ : بَلْ أُسَافِرُ ثِقَةً بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَتَكْذِيبًا لَك ; فَسَافَرَ فَبُورِكَ لَهُ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ حَتَّى قَتْل عَامَّة الْخَوَارِج وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا سِرٌّ بِهِ ; حَيْثُ كَانَ قِتَاله لَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا مَا يُذَكِّرُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تُسَافِرُ وَالْقَمَر فِي الْعَقْرَبِ " فَكَذِب مُخْتَلَق بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهَا صَنْعَة إدْرِيس . فَيُقَالُ " أَوَّلًا " هَذَا قَوْل بِلَا عِلْم ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَعْلَمُ إلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ ; وَلَا سَبِيلَ لِهَذَا الْقَائِلِ إلَى ذَلِكَ ; وَلَكِنْ فِي كُتُبٍ هَؤُلَاءِ " هَرْمَسَ الْهَرَامِسَة " وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ إدْرِيس . والهرمس عِنْدَهُمْ اسْم جِنْس ; وَلِهَذَا يَقُولُونَ : " هَرْمَسَ الْهَرَامِسَة " وَهَذَا الْقَدْر الَّذِي يُذَكِّرُونَهُ عَنْ هرمسهم يُعْلَمُ الْمُؤْمِن قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ مَأْخُوذًا عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِل . وَيُقَالُ " ثَانِيًا " : هَذَا إنْ كَانَ أَصْله مَأْخُوذًا عَنْ إدْرِيس فَإِنَّهُ كَانَ مُعْجِزَة لَهُ وَعِلْمًا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ فَيَكُونُ مِنْ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَحْتَجُّونَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْقِيَاسِ ; لَا بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام . وَيُقَالُ " ثَالِثًا " إنَّ كَانَ بَعْضَ هَذَا مَأْخُوذًا عَنْ نَبِيٍّ فَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنْ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِل أَضْعَاف مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْكَذِبَ وَالْبَاطِل الَّذِي فِي ذَلِكَ أَضْعَاف الْكَذِبِ وَالْبَاطِل الَّذِي عِنْد الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِيمَا يَأْثُرُونَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِذَا كَانَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَدّ تَيَقَّنَّا قَطْعًا أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور كَمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا وَمَا أَنْزَلَ عَلَى مِنْ قَبِلْنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَكَذَّبُوا وَكَتَمُوا ; فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَ الْوَحْيِ الْمُحَقَّقِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ يَقِينًا ; مَعَ أَنَّهَا إلَيْنَا أَقْرَبُ عَهْدًا مِنْ إدْرِيس وَمَعَ أَنَّ نَقْلَتَهَا أَعْظَمُ مِنْ نَقْلَةِ النُّجُومِ وَأَبْعَدُ عَنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . فَمَا الظَّنُّ بِهَذَا الْقَدْرِ إنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ إدْرِيس فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ وَالتَّحْرِيفِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } " فَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ لَا نُصَدِّقَ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ الْحَقُّ كَمَا لَا نُكَذِّبَ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ : فَكَيْفَ يَجُوزُ تَصْدِيقُ هَؤُلَاءِ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ إدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنْ عِلْمِهِمْ الْمُصَدَّقِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُقَالُ " رَابِعًا " : لَا رَيْبَ أَنَّ النُّجُومَ " نَوْعَانِ " : حِسَابٌ وَأَحْكَامٌ . فَأَمَّا الْحِسَابُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ أَقْدَارِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ . وَصِفَاتِهَا وَمَقَادِيرِ حَرَكَاتِهَا وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَهَذَا فِي الْأَصْلِ عِلْمٌ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَعْرِفَةِ الْأَرْضِ وَصِفَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لَكِنَّ جُمْهُورَ التَّدْقِيقِ مِنْهُ كَثِيرُ التَّعَبِ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ ; كَالْعَالِمِ مَثَلًا بِمَقَادِيرِ الدَّقَائِقِ وَالثَّوَانِي وَالثَّوَالِثِ فِي حَرَكَاتِ السَّبْعَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ { بِالْخُنَّسِ } { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } . فَإِنْ كَانَ أَصْلُ هَذَا مَأْخُوذًا عَنْ إدْرِيسَ فَهَذَا مُمْكِنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُ نَاسٌ إنَّ أَصْلَ الطِّبِّ مَأْخُوذٌ عَنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ . وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ سَاحِرًا وَهُمْ يَذْكُرُونَ أَنْوَاعًا مِنْ السِّحْرِ وَيَقُولُونَ : هَذَا يَصْلُحُ لِعَمَلِ النَّوَامِيسِ . أَيْ " الشَّرَائِعِ وَالسُّنَنِ " وَمِنْهَا مَا هُوَ دِعَايَةُ الْكَوَاكِبِ وَعِبَادَةٌ لَهَا وَأَنْوَاعٌ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يَعْلَمُ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ وَلَا عَلَّمَهُ وَإِضَافَةُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَإِضَافَةِ مَنْ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ ; فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَنْوَاعِ مِنْ السِّحْرِ حَتَّى إنَّ طَوَائِفَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَجْعَلُونَهُ نَبِيًّا حَكِيمًا فَنَزَّهَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } الْآيَةُ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحَوَادِثِ بِمَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالِاخْتِيَارَاتِ لِلْأَعْمَالِ : هَذَا كُلُّهُ يُعْلِمُ قَطْعًا أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُؤْمَرْ قَطُّ بِهَذَا ; إذْ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ هُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ بِكَثِيرِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا قَالَ إمَامُ هَؤُلَاءِ وَمُعَلِّمُهُمْ الثَّانِي " أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ قَالَ مَا مَضْمُونُهُ : إنَّك لَوْ قَلَبْت أَوْضَاعَ الْمُنَجِّمِينَ ; فَجَعَلْت مَكَانَ السَّعْدِ نَحْسًا وَمَكَانَ النَّحْسِ سَعْدًا أَوْ مَكَانَ الْحَارِّ بَارِدًا أَوْ مَكَانَ الْبَارِدِ حَارًّا أَوْ مَكَانَ الْمُذَكَّرِ مُؤَنَّثًا أَوْ مَكَانَ الْمُؤَنَّثِ مُذَكَّرًا وَحَكَمْت : لَكَانَ حُكْمُك مِنْ جِنْسِ أَحْكَامِهِمْ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى . وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَهُمْ يُنَزِّهُونَ عَنْهُ
بقراط وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَأَصْحَابَهُ الْفَلَاسِفَةَ الْمَشَّائِينَ الَّذِينَ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ نَظِيرُ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; فَإِذَا كَانُوا يُنَزِّهُونَ عَنْهُ هَؤُلَاءِ الصَّابِئِينَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ الَّذِينَ أَقَلُّ نِسْبَةً وَأَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ وَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُ قَدْ أُضِيفَ إلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ بِحَالِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ حَتَّى نُسِبَ إلَيْهِ أَحْكَامُ " الْحَرَكَاتِ السُّفْلِيَّةِ " كَاخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ وَحَوَادِثِ الْجَوِّ مِنْ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالْهَالَةِ وَقَوْسِ اللَّهِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : " قَوْسُ قُزَحٍ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ . وَكَذَلِكَ نُسِبَ إلَيْهِ " الْجَدْوَلُ " الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ الضَّلَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَعَلٌ عَلَيْهِ افْتَعَلَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَحَدُ الْمَشْهُورِينَ بِالْكَذِبِ ; مَعَ رِيَاسَتِهِ وَعَظَمَتِهِ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ . وَكَذَلِكَ أُضِيفَ إلَيْهِ كِتَابُ " الْجَفْرُ وَالْبِطَاقَةُ والهفت " وَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ حَتَّى أُضِيفَ إلَيْهِ " رَسَائِلُ إخْوَانِ الصَّفَا " وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ ; فَإِنَّ هَذِهِ الرَّسَائِلَ إنَّمَا وُضِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ ; فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَهَذِهِ الرَّسَائِلُ وُضِعَتْ فِي دَوْلَةِ بَنِي بويه فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فِي أَوَائِلِ دَوْلَةِ بَنِي عُبَيْدٍ الَّذِينَ بَنَوْا الْقَاهِرَةَ وَضَعَهَا جَمَاعَةٌ ; وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ جَمَعُوا بِهَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ ; فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . وَأَصْحَابُ " جَعْفَرٍ الصَّادِقِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ ; كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عيينة وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بَرَاءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ [ م ] مَا يَذْكُرُهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي فِي " كِتَابِ حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ " عَنْ جَعْفَرٍ مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِي كَذِبِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَحْكِيهَا عَنْهُ الرَّافِضَةُ . وَهِيَ مِنْ أَبْيَنِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ . وَلَيْسَ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَاخْتِلَافًا مِنْ " الرَّافِضَةِ " مِنْ حِينِ نَبَغُوا . فَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُقَالُ لَهُ " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ فَأَرَادَ بِذَلِكَ إفْسَادَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ بولص صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى حَيْثُ ابْتَدَعَ لَهُمْ بِدَعًا أَفْسَدَ بِهَا دِينَهُمْ وَكَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا فَقَصَدَ إفْسَادَهَا وَكَذَلِكَ كَانَ " ابْنُ سَبَأٍ يَهُودِيًّا فَقَصَدَ ذَلِكَ وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ لِقَصْدِ إفْسَادِ الْمِلَّةِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ ; لَكِنْ حَصَلَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْرِيشٌ وَفِتْنَةٌ قُتِلَ فِيهَا
عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَرَى مَا جَرَى مِنْ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَجْمَعْ اللَّ�