تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فَصْلٌ فِيمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ وَمَا لَمْ يَجْعَلْ لِوَاحِدِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الْحُكْمَ فِيهِ بَلْ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِنْ آحَادِ الْعَامَّةِ . وَهَذَا مِثْلُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَ الْخَلْقِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا وَقَدْ بَيَّنَهَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَوْ تَنَازَعَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ إذَا وَقَعَ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْحُكَّامِ وَبَيْنَ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْجُنْدِ أَوْ الْعَامَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا عَلَى مَنْ يُنَازِعُهُ وَيُلْزِمَهُ بِقَوْلِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُؤْذِيَهُ أَوْ يُعَاقِبَهُ . مِثْلُ أَنْ يَتَنَازَعَ حَاكِمٌ أَوْ غَيْرُ حَاكِمٍ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ ؟ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا : إنَّ مَسَّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَا لِشَهْوَةِ وَلَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ . أَوْ الْمُرَادُ بِهِ اللَّمْسُ بِجَمِيعِ الْبَشَرَةِ إمَّا لِشَهْوَةِ وَإِمَّا مُطْلَقًا ؟ كَمَا نُقِلَ الْأَوَّلُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَالثَّالِثُ قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " . وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّ النِّسَاءِ مُطْلَقًا وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَمَسُّونَ نِسَاءَهُمْ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِالْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ ; وَلَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ عَلَى حَيَاتِهِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ; وَلَا نُقِلَ عَنْهُ قَطُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ; بَلْ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ فِي السُّنَنِ { أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ وَلَا يَتَوَضَّأُ } وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ ; لَكِنْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ الْمَسِّ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ خُرُوجِ الدَّمِ بِالْفِصَادِ وَالْحِجَامَةِ وَالْجَرْحِ وَالرُّعَافِ وَفِي " الْقَيْءِ " وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ ; وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ; لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ أَصْحَابُهُ يَخْرُجُونَ فِي الْمَغَازِي فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ ; وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْوُضُوءِ " مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ " و " مَسِّ الْمَرْأَةِ لِشَهْوَةِ " إنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجِبُ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ " و " مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ " إنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ ; فَمَنْ تَوَضَّأَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ; بَلْ الْمَقْصُودُ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِهَا . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ كَالْجَدِّ وَالْمُشْرِكَةِ وَغَيْرِهِمَا وَفِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَفِي مَسَائِلِ زِيَارَاتِ الْقُبُورِ ; مِنْهُمْ مِنْ كَرِهَهَا مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهَا إذَا كَانَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ . وَتَنَازَعُوا فِي " السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " : هَلْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ ؟ أَوْ مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ ؟ وَهَلْ يَقِفُ بَعْدَ السَّلَامِ يَدْعُو لَهُ أَمْ لَا ؟ وَتَنَازَعُوا أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ أَفْضَلُ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَوْ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى يَطُولُ ذِكْرُهَا . وَتَنَازَعُوا فِي بَعْضِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : هَلْ ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ لَمْ تَثْبُتْ ؟ فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ لَيْسَ لِحَاكِمِ مِنْ الْحُكَّامِ كَائِنًا مَنْ كَانَ - وَلَوْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ - أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا بِقَوْلِهِ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِي قَوْلِهِ فَيَقُولُ : أَلْزَمْته أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يُفْتِيَ إلَّا بِالْقَوْلِ الَّذِي يُوَافِقُ لِمَذْهَبِي ; بَلْ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَاكِمُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ وَإِذَا كَانَ عِنْدَ مُنَازِعِهِ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَعُرِفَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ أُقِرَّ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِهِ - أُقِرَّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِهِ - وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَمْنَعَ الْآخَرَ إلَّا بِلِسَانِ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ فَيَقُولُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ . وَأَمَّا " بِالْيَدِ وَالْقَهْرِ " فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا فِي الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي يُتَحَاكَمُ فِيهَا إلَيْهِ مِثْلُ مَيِّتٍ مَاتَ وَقَدْ تَنَازَعَ وَرَثَتُهُ فِي قَسْمِ تَرِكَتِهِ فَيُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ وَإِذَا حَكَمَ هُنَا بِأَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَلْزَمَ الْخَصْمَ بِحُكْمِهِ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا لَا أَرْضَى حَتَّى يَحْكُمَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ . وَكَذَلِكَ إذَا تَحَاكَمَ إلَيْهِ اثْنَانِ فِي دَعْوَى يَدَّعِيهَا أَحَدُهُمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَلْزَمَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ : أَنْت حَكَمْت عَلَيَّ بِالْقَوْلِ الَّذِي لَا أَخْتَارُهُ ; فَإِنَّ الْحَاكِمَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } وَقَدْ يَخُصُّ اللَّهُ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ بِعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .