مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ " لَمَّا عُلِّلَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ طَرَدَ أَقْوَامٌ تِلْكَ الْعِلَّةَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَوْجُودَةَ الْآنَ إذَا كَانَتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهَا ; فَيُسْتَثْنَى فِي صِفَاتِهَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْحَالِ وَيُقَالُ : هَذَا صَغِيرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ كَبِيرًا وَيُقَالُ : هَذَا مَجْنُونٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ عَاقِلًا وَيُقَالُ لِلْمُرْتَدِّ : هَذَا كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتُوبَ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ ظَنُّوا هَذَا قَوْلَ السَّلَفِ . وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَنْصُرُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ والجهمية وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَنْصُرُونَ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيَنْصُرُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الكلابية والكرامية وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ يَنْصُرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ لَا يَكْفُرُونَ بِالذَّنْبِ وَلَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَعَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَحَوْضَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي شَاعَ أَنَّهَا مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . كَمَا يَنْصُرُونَ خِلَافَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَفَضِيلَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَنْصُرُهُ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ . فَيَنْصُرُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ الْمَآخِذِ الَّتِي كَانَتْ مَآخِذَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ بِمَآخِذَ أُخَرَ قَدْ تَلَقَّوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَقَعُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْخَطَأِ مَا ذَمَّ بِهِ السَّلَفُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَمِّ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ . وَالْكَلَامُ الْمَذْمُومُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } . فَهَؤُلَاءِ لَمَّا اُشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا جُعِلَ الْإِيمَانُ هُوَ مَا يَمُوتُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ السَّلَفِ هُوَ هَذَا ; فَصَارُوا يَحْكُونَ هَذَا عَنْ السَّلَفِ ; وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ ; وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ حَكَوْهُ عَنْهُمْ بِحَسَبِ ظَنِّهِمْ : لِمَا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا نَصَرُوهُ مِنْ أَصْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ هُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَالنُّظَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَذَاهِبِ السَّلَفِ الَّتِي خَالَفَهَا بَعْضُ النُّظَّارِ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ قَوْلِ السَّلَفِ ; فَيَقُولُ مَنْ عَرَفَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ دُونَ السَّلَفِ أَوْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ لِمَا يَرَاهُ مِنْ تَمَيُّزِهِمْ عَلَيْهِ : هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ . وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ . وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالَفَةِ لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ ; وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ وَبَعْضِ الْمُلْحِدِينَ وَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا ; عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ التَّحْقِيقِ إلَّا مَا هُوَ دُونَ تَحْقِيقِ السَّلَفِ لَا فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْعَمَلِ وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وبالعمليات عَلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ دَائِمًا أَرْجَحُ مِنْ قَوْل مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يَبْتَدِعُ أَحَدٌ قَوْلًا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَ خَطَأً وَكَانَ الصَّوَابُ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ قَبْلِهِ . قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ فِي الْإِيمَانِ وَصَحَّحَ أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ قَالَ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا ; مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ وَشَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يُوَافِيَ رَبَّهُ بِهِ وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ فِي الْحَالِ . قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مُعْظَمَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ قَالَ : الْأَكْثَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمُوَافَاةِ . وَمَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَأَمَّا مَنْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَلَى إيمَانِهِ كَالْعَشَرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ . ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ ; أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمُوَافَاةِ ; وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْحَالِ وَكَوْنُهُ مُعْتَدًّا عِنْدَ اللَّهِ بِهِ وَفِي حُكْمِهِ فَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِطْلَاقِ فِي الْحَالِ ; لَا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ ; لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا يَدْرِي أَيَّ الْإِيمَانِ الَّذِي نَحْنُ مَوْصُوفُونَ بِهِ فِي الْحَالِ هَلْ هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ ؟ عَلَى مَعْنَى أَنَّا نَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْعَاقِبَةِ وَنَجْتَنِي مِنْ ثِمَارِهِ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : أَمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ حَقًّا ؟ أو تَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ أو تَقُولُونَ نَرْجُو ؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَعْنُونَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ فِي الْعَاقِبَةِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ فِي حُكْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَمَ الْفَوْزِ وَآيَةَ النَّجَاةِ وَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِي حُكْمِ اللَّهِ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ يَكُونُ إيمَانُهُ الَّذِي تَحَلَّى بِهِ فِي الْحَالِ عَارِيَةً . قَالَ : وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الصَّائِرِينَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَطْعًا ; وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا . قُلْت : هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ مُتَنَاوَلًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ ; فَمَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الجهمية وَالْمُرْجِئَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ ; فَإِنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ قَطْعًا وَيَكُونُ كَامِلَ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مَعَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَلَا يَلْزَمُ إذَا وَافَى بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَهَذَا اللَّازِمُ لِقَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ . وَكَذَلِكَ قَالُوا : لَا سِيَّمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } الْآيَةَ . قَالَ : فَهَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ جَعَلُوا الثَّبَاتَ عَلَى هَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ إلَى الْعَاقِبَةِ وَالْوَفَاءَ بِهِ فِي الْمَآلِ شَرْطًا فِي الْإِيمَانِ شَرْعًا لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا . قَالَ : وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرِينَ ; قَالَ : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فورك ; وَكَانَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ ابْنُ إسْحَاقَ بْنِ خزيمة يَغْلُو فِيهِ وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ .