مسألة سابقة
متن:
وَالِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ يَحْصُلُ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ وَفِي الْخَبَرِ الَّذِي مَعَهُ طَلَبٌ ; فَالْأَوَّلُ إذَا حَلَفَ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ لَا يَقْصِدُ بِهِ حَضًّا وَلَا مَنْعًا بَلْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَا . وَالْمُسْتَثْنِي قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَتَدْخُلُنَّ } فَإِنَّ هَذَا جَوَابٌ غَيْرُ مَحْذُوفٍ . وَالثَّانِي : مَا فِيهِ مَعْنَى الطَّلَبِ كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ; فَالصِّيغَةُ صِيغَةُ خَبَرٍ ضَمَّنَهَا الطَّلَبَ وَلَمْ يَقُلْ : وَاَللَّهِ إنِّي لَمُرِيدٌ هَذَا وَلَا عَازِمٌ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَيَكُونَنَّ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ حَنِثَ لِوُقُوعِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَحَنِثَ فَإِذَا قَالَ : " إنْ شَاءَ اللَّهُ " فَإِنَّمَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ : إنْ يَشَأْ اللَّهُ لَا مُطْلَقًا . وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُوجَدْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ أَوْ مَتَى وَجَدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ حَنِثَ سَوَاءٌ كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ جَاهِلًا فَإِنَّهُمْ لَحَظُوا أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ فَإِذَا وُجِدَ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَقَدْ حَنِثَ وَقَالَ الْآخَرُونَ : بَلْ هَذَا مَقْصُودُهُ الْحَضُّ وَالْمَنْعُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَتَى نُهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا فَكَذَلِكَ هَذَا . قَالَ الْأَوَّلُونَ : فَقَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَيَقَعَنَّ الْمَطَرُ أَوْ لَا يَقَعُ وَهَذَا خَبَرٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ حَضٌّ وَلَا مَنْعٌ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى اعْتِقَادِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ حَنِثَ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي وَالْحِلْفِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَاضِي غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ كَالْغَمُوسِ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ . وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا كَانَ فَعَلَهُ . قَالَ تَعَالَى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } فَأَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَا سَيَكُونُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْحَاضِرِ فِي قَوْلِهِ : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا } . وَقَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَا قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَا قُتِلَ } وَقَالَ : { إذَا هَلَكَ كِسْرَى أَوْ لِيَهْلِكَ كِسْرَى ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ . وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَكِلَاهُمَا فِي " الصَّحِيحِ " . فَأَقْسَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .