سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنْ الشَّيْطَانِ ؟ وَأَنَّ الشَّرَّ هُوَ بِيَدِ الْعَبْدِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } { فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَإِنَّ عَقِيدَةَ هَذَا أَنَّ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ الشَّرَّ بِيَدِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ الشَّرَّ فَعَلَهُ ; فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّ لِي مَشِيئَةً فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ الشَّرَّ فَعَلْتُهُ فَهَلْ لَهُ مَشِيئَةٌ فَعَّالَةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ - أَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَهُ مُقَدِّمَتَانِ : ( إحْدَاهُمَا ) : أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيُحِبُّ الْحَسَنَاتِ وَيَرْضَاهَا وَيُكْرِمُ أَهْلَهَا وَيُثِيبُهُمْ وَيُوَالِيهِمْ وَيَرْضَى عَنْهُمْ وَيُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَهُمْ جُنْدُ اللَّهِ الْمَنْصُورُونَ وَحِزْبُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَهُمْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . وَأَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ السَّيِّئَاتِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَهُوَ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ وَيَلْعَنُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ وَيُعَاقِبُهُمْ وَيُعَادِيهِمْ وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ وَهُمْ الْأَشْقِيَاءُ . لَكِنَّهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي هَذَا مَا بَيْنَ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ وَعَاصٍ لَيْسَ بِكَافِرِ وَلَا فَاسِقٍ . وَ ( الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ) : أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمَلِيكُهُ . لَا رَبَّ غَيْرُهُ ; وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ ; وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ; لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ ; وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ ; وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَجَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ : مِنْ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتِهَا ; وَحَرَكَاتِهَا ; فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ ; مَقْدُورَةٌ لَهُ ; مُصَرَّفَةٌ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمُلْكِهِ ; وَلَا يُشْرِكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُهُ ; بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ; لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ; وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ; فَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ; وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . فَإِذَا ثَبَتَتْ هَاتَانِ " الْمُقَدِّمَتَانِ " . فَنَقُولُ : إذَا أُلْهِمَ الْعَبْدُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَيَسْتَعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ أَعَانَهُ وَهَدَاهُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِذَا خُذِلَ الْعَبْدُ فَلَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ ; وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ . فَيُوَلِّيهِ الشَّيْطَانَ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَشَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِي الْوُجُودِ هُوَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ; لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ الْقَدَرِ الْمَقْدُورِ وَلَا يَتَجَاوَزُ مَا خُطَّ لَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ ; بَلْ { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ . وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى اللَّهِ ; فَالْإِيمَانُ بِهِ هُدًى ; وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى اللَّهِ ضَلَالٌ وَغَيٌّ بَلْ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ صَبَّارًا شَكُورًا ; صَبُورًا عَلَى الْبَلَاءِ شَكُورًا عَلَى الرَّخَاءِ إذَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَشَكَرَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ النِّعْمَةُ حَسَنَةً فَعَلَهَا أَوْ كَانَتْ خَيْرًا حَصَلَ بِسَبَبِ سَعْيِهَا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَسَّرَ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا فَلَهُ الْحَمْدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ . وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ صَبَرَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ قَدْ جَرَتْ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ أَفْعَالَهُ وَكَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى الْعَبْدِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } . قَالُوا : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ . وَعَلَيْهِ إذَا أَذْنَبَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ وَلَا يَحْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ وَلَا يَقُولَ : أَيُّ ذَنْبٍ لِي وَقَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ هَذَا الذَّنْبُ ; بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْمُذْنِبُ الْعَاصِي الْفَاعِلُ لِلذَّنْبِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ إذْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ ; لكن الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي أَكَلَ الْحَرَامَ وَفَعَلَ الْفَاحِشَةَ وَهُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ ; كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي صَلَّى وَصَامَ وَحَجَّ وَجَاهَدَ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ ; وَهُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَهُوَ الْكَاسِبُ بِهَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ لَهُ مَا كَسَبَ وَعَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } . فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ مِنْ المعائب . وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ; وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ; وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ; وَمُشِيئَةُ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَوْجُودَةٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَهُ مَشِيئَةٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا . وَهُوَ الْعَامِلُ لِهَذَا وَهَذَا وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ; لَا خَالِقَ غَيْرُهُ ; وَلَا رَبَّ سِوَاهُ ; مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ " الْمَشِيئَتَيْنِ " مَشِيئَةَ الرَّبِّ ; وَمَشِيئَةَ الْعَبْدِ ; وَبَيَّنَ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ الرَّبِّ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } . وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي ; فَيَتَنَازَعُونَ هَذَا يَقُولُ : قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَذَا يَقُولُ الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةُ مِنْ نَفْسِكَ وَكِلَاهُمَا أَخْطَأَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أَيْ امْتَحَنَّاهُمْ وَاخْتَبَرْنَاهُمْ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ . وَمَعْنَى الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ : كَانُوا إذَا أَصَابَتْهُمْ حَسَنَةٌ مِثْلُ النَّصْرِ وَالرِّزْقِ وَالْعَافِيَةِ . قَالُوا : هَذَا مِنْ اللَّهِ وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ - مِثْلُ ضَرْبٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ مِنْ الْعَدُوِّ - قَالُوا : هَذَا مِنْ عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ الَّذِي جِئْتَ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي عَادَانَا لِأَجْلِهِ النَّاسُ وَابْتُلِينَا لِأَجْلِهِ بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أَنْتَ إنَّمَا أَمَرْتَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ نِعْمَةٍ : نَصْرٍ وَعَافِيَةٍ وَرِزْقٍ فَمِنْ اللَّهِ نِعْمَةً أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكَ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ : فَقْرٍ وَذُلٍّ وَخَوْفٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمِنْ نَفْسِكَ وَذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ . كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } . فَالْإِنْسَانُ إذَا أَصَابَتْهُ الْمَصَائِبُ بِذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ كَانَ هُوَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ فَإِذَا تَابَ وَاسْتَغْفَرَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَالذُّنُوبُ مِثْلُ أَكْلِ السُّمِّ . فَهُوَ إذَا أَكَلَ السُّمَّ مَرِضَ أَوْ مَاتَ فَهُوَ الَّذِي يَمْرَضُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَتَعَذَّبُ وَيَمُوتُ وَاَللَّهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنَّمَا مَرِضَ بِسَبَبِ أَكْلِهِ وَهُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَكْلِ السُّمِّ . فَإِنْ شَرِبَ التِّرْيَاقَ النَّافِعَ عَافَاهُ اللَّهُ فَالذُّنُوبُ كَأَكْلِ السُّمِّ وَالتِّرْيَاقُ النَّافِعُ كَالتَّوْبَةِ النَّافِعَةِ وَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ فَهُوَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ يُلْهِمُهُ التَّوْبَةَ فَإِذَا تَابَ تَابَ عَلَيْهِ فَإِذَا سَأَلَهُ الْعَبْدُ وَدَعَاهُ اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ . كَمَا قَالَ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } . وَمَنْ قَالَ : لَا مَشِيئَةَ لَهُ فِي الْخَيْرِ وَلَا فِي الشَّرِّ فَقَدْ كَذَبَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَشَاءُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَقَدْ كَذَبَ ; بَلْ لَهُ مَشِيئَةٌ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِهَذَا وَهَذَا لِيَحْصُلَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَأَنَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . وَمَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَمَنْ اعْتَذَرَ بِهِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ بَلْ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ . كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا ظَلَمَهُمْ ظَالِمٌ بَلْ لَوْ فَعَلَ الْإِنْسَانُ مَا يَكْرَهُونَهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَعْذُرُوهُ بِالْقَدَرِ بَلْ يُقَابِلُوهُ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَهُمْ فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَهُمْ ; وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ أَحَدُهُمْ بِالْقَدَرِ عِنْدَ هَوَاهُ وَمَعْصِيَةِ مَوْلَاهُ لَا عِنْدَ مَا يُؤْذِيهِ النَّاسُ وَيَظْلِمُونَهُ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ بِالْعَكْسِ فِي ذَلِكَ إذَا آذَاهُ النَّاسُ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ وَإِذَا أَسَاءَ هُوَ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } فَالْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَايِبِ وَالْمُنَافِقُ بِالْعَكْسِ لَا يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبِهِ بَلْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ فَلِهَذَا يَكُونُ شَقِيًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; وَالْمُؤْمِنُ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .