تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية الحراني قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ : فَصْلٌ : ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْقَلْبَ لِلْإِنْسَانِ يَعْلَمُ بِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا خَلَقَ لَهُ الْعَيْنَ يَرَى بِهَا الْأَشْيَاءَ وَالْأُذُنَ يَسْمَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ كَمَا خَلَقَ لَهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لِأَمْرِ مِنْ الْأُمُورِ وَعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ . فَالْيَدُ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلُ لِلسَّعْيِ وَاللِّسَانُ لِلنُّطْقِ وَالْفَمُ لِلذَّوْقِ وَالْأَنْفُ لِلشَّمِّ وَالْجِلْدُ لِلَّمْسِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ . فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْعُضْوَ فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَأُعِدَّ لِأَجْلِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الْقَائِمُ وَالْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا وَصَلَاحًا لِذَلِكَ الْعُضْوِ وَ لِرَبِّهِ وَ لِلشَّيْءِ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِيهِ وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي اسْتَقَامَ حَالُهُ و { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَإِذَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ الْعُضْوُ فِي حَقِّهِ بَلْ تُرِكَ بَطَّالًا فَذَلِكَ خُسْرَانٌ وَصَاحِبُهُ مَغْبُونٌ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي خِلَافِ مَا خُلِقَ لَهُ فَهُوَ الضَّلَالُ وَالْهَلَاكُ وَصَاحِبُهُ مِنْ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا . ثُمَّ إنَّ سَيِّدَ الْأَعْضَاءِ وَرَأْسَهَا هُوَ الْقَلْبُ : كَمَا سُمِّيَ قَلْبًا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ وَقَالَ أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا } . وَإِذْ قَدْ خُلِقَ الْقَلْبُ لِأَنْ يُعْلَمَ بِهِ فَتَوَجُّهُهُ نَحْوَ الْأَشْيَاءِ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ بِهَا هُوَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ كَمَا أَنَّ إقْبَالَ الْأُذُنِ عَلَى الْكَلَامِ ابْتِغَاءَ سَمْعِهِ هُوَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ وَانْصِرَافَ الطَّرْفِ إلَى الْأَشْيَاءِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهَا هُوَ النَّظَرُ . فَالْفِكْرُ لِلْقَلْبِ كَالْإِصْغَاءِ لِلْأُذُنِ وَمِثْلُهُ نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ فِيمَا سَبَقَ وَإِذَا عَلِمَ مَا نَظَرَ فِيهِ فَذَاكَ مَطْلُوبُهُ كَمَا أَنَّ الْأُذُنَ كَذَلِكَ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ أَوْ الْعَيْنُ إذَا أَبْصَرَتْ مَا نَظَرَتْ إلَيْهِ . وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ مُفَكِّرٍ لَمْ يُحَصِّلْ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَلْهُ كَمَا أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَاظِرٍ إلَى الْهِلَالِ لَا يُبْصِرُهُ وَمُسْتَمِعٍ إلَى صَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ . وَعَكْسُهُ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا بِشَيْءِ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ وَلَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ إلَيْهِ سَابِقَةُ تَفْكِيرٍ فِيهِ كَمَنْ فَاجَأَتْهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ أَوْ سَمِعَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْغِيَ إلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا لِأَنَّ الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ يَقْبَلُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ وَاسْتِعْدَادٍ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا مِنْ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا وَقَدْ يَأْتِي فَضْلًا مِنْ اللَّهِ فَيَكُونُ مَوْهُوبًا . فَصَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ وَاَلَّذِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ لَا أَقُولُ أَنْ يَعْلَمَهَا فَقَطْ فَقَدْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَنْ لَا يَكُونُ عَاقِلًا لَهُ بَلْ غَافِلًا عَنْهُ مُلْغِيًا لَهُ وَاَلَّذِي يَعْقِلُ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يُقَيِّدُهُ وَيَضْبُطُهُ وَيَعِيهِ وَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ فَيَكُونُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَنِيًّا فَيُطَابِقَ عَمَلُهُ قَوْلَهُ وَبَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَةَ . { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا وَلَا يُؤْتَى حُكْمًا وَإِنَّ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا . وَهَذَا مَعَ أَنَّ النَّاسَ مُتَبَايِنُونَ فِي نَفْسِ عَقْلِهِمْ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَيْنِ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ وَفِيمَا يَعْقِلُونَهُ مِنْ بَيْنِ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَجَلِيلٍ وَدَقِيقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُمَّهَاتُ مَا يُنَالُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُدْرَكُ أَعْنِي الْعِلْمَ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ عَنْ سَائِر الْحَيَوَانَاتِ دُونَ مَا يُشَارِكُهَا فِيهِ مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ وَهُنَا يُدْرِكُ بِهِ مَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ وَمَا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَنْ يُحْسِنُ إلَيْهِ وَمَنْ يُسِيءُ إلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَقَالَ : { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } وَقَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } وَقَالَ : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } وَقَالَ : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } . وَقَالَ فِيمَا لِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْقُوَّةِ : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا } . ثُمَّ إنَّ الْعَيْنَ تَقْصُرُ عَنْ الْقَلْبِ وَالْأُذُنِ وَتُفَارِقُهُمَا فِي شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا يَرَى صَاحِبُهَا بِهَا الْأَشْيَاءَ الْحَاضِرَةَ وَالْأُمُورَ الْجُسْمَانِيَّةَ مِثْلَ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ فَأَمَّا الْقَلْبُ وَالْأُذُنُ فَيَعْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهِمَا مَا غَابَ عَنْهُ وَمَا لَا مَجَالَ لِلْبَصَرِ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الروحانية وَالْمَعْلُومَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَفْتَرِقَانِ : فَالْقَلْبُ يَعْقِلُ الْأَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ إذْ كَانَ الْعِلْمُ هُوَ غِذَاءَهُ وَخَاصِّيَّتَهُ أَمَّا الْأُذُنُ فَإِنَّهَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْعِلْمِ إلَى الْقَلْبِ فَهِيَ بِنَفْسِهَا إنَّمَا تَحْمِلُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ فَإِذَا وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْقَلْبِ أَخَذَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ فَصَاحِبُ الْعِلْمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ هُوَ الْقَلْبُ وَإِنَّمَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ حَجَبَةٌ لَهُ تُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَأْخُذَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى إنَّ مَنْ فَقَدَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ بِفَقْدِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ هُوَ الْوَاسِطَةَ فِيهِ . فَالْأَصَمُّ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْعِلْمِ وَالضَّرِيرُ لَا يَدْرِي مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَشْخَاصُ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إلَى الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ قَلْبٍ أَوْ اسْتَمَعَ إلَى كَلِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ قَلْبٍ فَإِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا ; فَمَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى الْقَلْبِ وَعِنْدَ هَذَا تَسْتَبِينُ الْحِكْمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } حَتَّى لَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْعَيْنَ كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّوَابِقِ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ هُنَا فِي أُمُورٍ غَائِبَةٍ وَحِكْمَةٍ مَعْقُولَةٍ مِنْ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ لَا مَجَالَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ فِيهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } وَتَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . فَإِنَّ مَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ إمَّا رَجُلٌ رَأَى الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَهُ فَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهِ فَذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلْبِ ; أَوْ رَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْهُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَيُبَيِّنُهُ لَهُ وَيَعِظُهُ وَيُؤَدِّبُهُ فَهَذَا أَصْغَى فَ : { أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَائِبِهِ . كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : أوتى الْعِلْمَ وَكَانَ لَهُ ذِكْرَى . وَيَتَبَيَّنُ قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } وَقَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } . ثُمَّ إذَا كَانَ حَقُّ الْقَلْبِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } إذْ كَانَ كُلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ لَمْحَةَ نَاظِرٍ أَوْ يَجُولُ فِي لَفْتَةِ خَاطِرٍ فَاَللَّهُ رَبُّهُ وَمُنْشِئُهُ وَفَاطِرُهُ وَمُبْدِئُهُ لَا يُحِيطُ عِلْمًا إلَّا بِمَا هُوَ مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَةِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ . وَأَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ . أَيْ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذَا نَظَرْت إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ إلَّا وَجَدْته إلَى الْعَدَمِ وَمَا هُوَ فَقِيرٌ إلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ فَإِذَا نَظَرْت إلَيْهِ وَقَدْ تَوَلَّتْهُ يَدُ الْعِنَايَةِ بِتَقْدِيرِ مَنْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى رَأَيْته حِينَئِذٍ مَوْجُودًا مَكْسُوًّا حَلَّلَ الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ فَقَدْ اسْتَبَانَ أَنَّ الْقَلْبَ إنَّمَا خُلِقَ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ - أَظُنُّهُ سُلَيْمَانَ الْخَوَّاصَ رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ : الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْجَسَدِ فَكَمَا لَا يَجِدُ الْجَسَدُ لَذَّةَ الطَّعَامِ مَعَ السَّقَمِ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الذِّكْرِ مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا . أَوْ كَمَا قَالَ . فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِاَللَّهِ عَاقِلًا لِلْحَقِّ مُتَفَكِّرًا فِي الْعِلْمِ فَقَدْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ إذَا صُرِفَتْ إلَى النَّظَرِ فِي الْأَشْيَاءِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِهَا أَمَّا إذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْعِلْمِ وَلَمْ يُوعَ فِيهِ الْحَقُّ فَقَدْ نَسِيَ رَبَّهُ فَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعٍ بَلْ هُوَ ضَائِعٌ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ قَدْ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ لَمْ يُوضَعْ أَصْلًا . فَإِنَّ مَوْضِعَهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَى الْحَقِّ بَاطِلٌ فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِي الْحَقِّ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْبَاطِلُ وَالْبَاطِلُ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ أَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ مَوْضِعًا . وَالْقَلْبُ هُوَ نَفْسُهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْحَقَّ . فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ مَا خُلِقَ لَهُ . { سُنَّةَ اللَّهِ } { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَتْرُوكِ مُخِلٍّ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ فِي أَوْدِيَةِ الْأَفْكَارِ وَأَقْطَارِ الْأَمَانِي لَا يَكُونُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مِنْ الْفَرَاغِ وَالتَّخَلِّي فَقَدْ وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَا مُطْلَقٍ وَلَا مُعَلَّقٍ مَوْضُوعٍ لَا مَوْضِعَ لَهُ . وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ فَسُبْحَانَ رَبِّنَا الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَإِنَّمَا تَنْكَشِفُ لِلْإِنْسَانِ هَذِهِ الْحَالُ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْحَقِّ إمَّا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْإِنَابَةِ أَوْ عِنْدَ الْمُنْقَلَبِ إلَى الْآخِرَةِ فَيَرَى سُوءَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَكَيْفَ كَانَ قَلْبُهُ ضَالًّا عَنْ الْحَقِّ . هَذَا إذَا صُرِفَ فِي الْبَاطِلِ . فَأَمَّا لَوْ تُرِكَ وَحَالُهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا فَارِغًا عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ خَالِيًا عَنْ كُلِّ فِكْرٍ فَقَدْ كَانَ يَقْبَلُ الْعِلْمَ الَّذِي لَا جَهْلَ فِيهِ وَيَرَى الْحَقَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ فَيُؤْمِنُ بِرَبِّهِ وَيُنِيبُ إلَيْهِ . فَإِنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ لَا يُحَسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعٍ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } وَإِنَّمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ فِي غَالِبِ الْحَالِ شُغْلُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ فِتَنِ الدُّنْيَا وَمَطَالِبِ الْجَسَدِ وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْعَيْنِ النَّاظِرَةِ إلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَرَى مَعَ ذَلِكَ الْهِلَالَ أَوْ هُوَ يَمِيلُ إلَيْهِ فَيَصُدُّهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ كَالْعَيْنِ الَّتِي فِيهَا قَذًى لَا يُمْكِنُهَا رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ . ثُمَّ الْهَوَى قَدْ يَعْتَرِضُ لَهُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَيَصُدُّهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهِ فَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ الْحَقُّ كَمَا قِيلَ : حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيَصُمُّ . فَيَبْقَى فِي ظُلْمَةِ الْأَفْكَارِ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ كِبْرٍ يَمْنَعُهُ عَنْ أَنْ يَطْلُبَ الْحَقَّ { فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ عَرَفَ الْحَقَّ فَيَجْحَدَهُ وَيُعْرِضَ عَنْهُ كَمَا قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ فِيهِمْ : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } ثُمَّ الْقَلْبُ لِلْعِلْمِ كَالْإِنَاءِ لِلْمَاءِ وَالْوِعَاءِ لِلْعَسَلِ وَالْوَادِي لِلسَّيْلِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } الْآيَةُ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا : فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَسَقَى النَّاسُ وَزَرَعُوا . وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً إنَّمَا قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا أُرْسِلْت بِهِ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ } وَفِي حَدِيثِ كميل بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا . وَبَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ : الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا . وَهَذَا مَثَلٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا لَيِّنًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ سَهْلًا يَسِيرًا وَرَسَخَ الْعِلْمُ فِيهِ وَثَبَتَ وَأَثَّرَ وَإِنْ كَانَ قَاسِيًا غَلِيظًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ صَعْبًا عَسِيرًا . وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَكِيًّا صَافِيًا سَلِيمًا حَتَّى يَزْكُوَ فِيهِ الْعِلْمُ وَيُثْمِرَ ثَمَرًا طَيِّبًا وَإِلَّا فَلَوْ قَبِلَ الْعِلْمَ وَكَانَ فِيهِ كَدَرٌ وَخَبَثٌ أَفْسَدَ ذَلِكَ الْعِلْمَ وَكَانَ كَالدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْحَبَّ مِنْ أَنْ يَنْبُتَ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَزْكُوَ وَيَطِيبَ وَهَذَا بَيِّنٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ . وَ ( تَلْخِيصُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَقِّ فَلَهُ وَجْهَانِ : ( وَجْهٌ مُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ : وِعَاءٌ وَإِنَاءٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ مَا يُوعَى فِيهِ وَيُوضَعُ فِيهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ وُجُودٍ وَثُبُوتٍ . وَ ( وَجْهٌ مُعْرِضٌ عَنْ الْبَاطِلِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ : زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ وَطَاهِرٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرِّ وَانْتِفَاءِ الْخَبَثِ وَالدَّغَلِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ عَدَمٍ وَنَفْيٍ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى الْبَاطِلِ فَلَهُ وَجْهَانِ كَذَلِكَ . ( وَجْهُ الْوُجُودِ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْبَاطِلِ مَشْغُولٌ بِهِ . وَ ( وَجْهُ الْعَدَمِ أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْحَقِّ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ وَهَذَا يُبَيِّنُ مِنْ الْبَيَانِ وَالْحُسْنِ وَالصِّدْقِ مَا فِي قَوْلِهِ : إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِغَيْرِ إنَاءٍ فَهُوَ قَلْبٌ مُضَيِّعُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ مَنْ ضَيَّعَ قَلْبَهُ فَظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ اشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ وَمَلَأَ بِهِ قَلْبَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِلْحَقِّ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْوُلُوجِ فِيهِ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَوَصَفَ حَالَ هَذَا الْقَلْبِ بِوَجْهَيْهِ وَنَعَتَهُ بِمَذْهَبَيْهِ فَذَكَرَ أَوَّلًا وَصْفَ الْوُجُودِ مِنْهُ فَقَالَ : إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . يَقُولُ إذَا شَغَلْته بِمَا لَمْ يُخْلَقْ لَهُ فَصَرَفْته إلَى الْبَاطِلِ حَتَّى صَارَ مَوْضُوعًا فِيهِ . ثُمَّ الْبَاطِلُ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ : ( إحْدَاهُمَا ) تَشْغَلُ عَنْ الْحَقِّ وَلَا تُعَانِدُهُ مِثْلَ الْأَفْكَارِ وَالْهُمُومِ الَّتِي فِي عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ . وَ ( الثَّانِيَةُ ) تُعَانِدُ الْحَقَّ وَتَصُدُّ عَنْهُ مِثْلَ الْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ وَشِبْهِ ذَلِكَ بَلْ الْقَلْبُ لَمْ يُخْلَقْ إلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ مَوْضِعًا لَهُ . ثُمَّ ذَكَرَ " ثَانِيًا " وَصْفَ الْعَدَمِ فِيهِ فَقَالَ بِغَيْرِ إنَاءٍ ثُمَّ يَقُولُ : إذَا وَضَعْته بِغَيْرِ إنَاءٍ ضَيَّعْته وَلَا إنَاءَ مَعَك كَمَا تَقُولُ حَضَرْت الْمَجْلِسَ بِلَا مَحْبَرَةٍ فَالْكَلِمَةُ حَالٌ مِنْ الْوَاضِعِ . لَا مِنْ الْمَوْضُوعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يَقُولُ إذَا مَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَدْ شُغِلَ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ وَيَنْزِلُ إلَيْهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْقَلْبِ فَقَلْبُك إذًا مُضَيَّعٌ ضَيَّعْته مِنْ وَجْهَيْ التَّضْيِيعِ وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّك وَضَعْته فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا إنَاءَ مَعَك يَكُونُ وِعَاءً لِلْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَاهُ ; كَمَا لَوْ قِيلَ لِمَلِكِ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ : إذَا اشْتَغَلَ بِغَيْرِ الْمَمْلَكَةِ وَلَيْسَ فِي الْمَمْلَكَةِ مَنْ يُدَبِّرُهَا فَهُوَ مَلِكٌ ضَائِعٌ لَكِنَّ الْإِنَاءَ هُنَا هُوَ الْقَلْبُ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُوضَعَ فِيهِ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . وَإِنَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ اثْنَيْنِ بِذِكْرِ نَعْتَيْنِ لِشَيْءِ وَاحِدٍ . كَمَا جَاءَ نَحْوُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } قَالَ قتادة وَالرَّبِيعُ : هُوَ الْقُرْآنُ : فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ كَبِيرَانِ فَهُوَ مَعَ وَصْفٍ وَاحِدٍ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَمَعَ الْوَصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ حَتَّى لَوْ كَثُرَتْ صِفَاتُهُ لَتَنَزَّلَ مَنْزِلَةَ أَشْخَاصٍ . أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يُحْسِنُ الْحِسَابَ وَالطِّبَّ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حَاسِبٍ وَطَبِيبٍ وَالرَّجُلُ الَّذِي يُحْسِنُ النِّجَارَةَ وَالْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ نَجَّارٍ وَبَنَّاءٍ . وَالْقَلْبُ لَمَّا كَانَ يَقْبَلُ الذِّكْرَ وَالْعِلْمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ الْإِنَاءَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَسْمَاءِ الْقَلْبِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ رَقِيقًا وَصَافِيًا وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُسْتَطْعِمُ الْمُسْتَعْطِي فِي مَنْزِلَةِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ . وَلَمَّا كَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ الْبَاطِلِ فَهُوَ زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ فَكَأَنَّهُ اثْنَانِ . وَلِيَتَبَيَّنَ فِي الصُّورَةِ أَنَّ الْإِنَاءَ غَيْرُ الْقَلْبِ فَهُوَ يَقُولُ : إذَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَهُوَ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْمَطْلُوبُ فَمِثْلُك مِثْلُ رَجُلٍ بَلَغَهُ أَنَّ غَنِيًّا يُفَرِّقُ عَلَى النَّاسِ طَعَامًا وَكَانَ لَهُ زُبْدِيَّةٌ أَوْ سُكْرُجَةٌ فَتَرَكَهَا ثُمَّ أَقْبَلَ يَطْلُبُ طَعَامًا فَقِيلَ لَهُ : هَاتِ إنَاءً نُعْطِيَك طَعَامًا فَأَمَّا إذَا أَتَيْت وَقَدْ وَضَعْت زُبْدِيَّتَك - مَثَلًا - فِي الْبَيْتِ وَلَيْسَ مَعَك إنَاءٌ نُعْطِيك فَلَا تَأْخُذْ شَيْئًا فَرَجَعْت بِخُفَّيْ حنين . وَإِذَا تَأَمَّلَ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِأَسَالِيبِ الْبَيَانِ وَتَصَارِيفِ اللِّسَانِ وَجَدَ مَوْقِعَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ كِلَيْهِمَا مَوْقِعًا حَسَنًا بَلِيغًا فَإِنَّ نَقِيضَ هَذِهِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُقْبِلًا عَلَى الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالذِّكْرِ مُعْرِضًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَتِلْكَ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ الْحَنَفَ هُوَ إقْبَالُ الْقَدَمِ وَمَيْلُهَا إلَى أُخْتِهَا فَالْحَنَفُ الْمَيْلُ عَنْ الشَّيْءِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى آخَرَ ; فَالدِّينُ الْحَنِيفُ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ . وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الَّذِي تَرْجَمَتْهُ كَلِمَةُ الْحَقِّ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَهَذَا آخِرُ مَا حَضَرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .