مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : ( أَحَدُهَا ) الرِّضَا بِالطَّاعَاتِ ; فَهَذَا طَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا . وَ ( الثَّانِي ) : الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ فَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ : إمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ . وَ ( الثَّالِثُ ) : الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ فَهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِالرِّضَا بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِبُغْضِهِ وَسَخَطِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَقَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَهُوَ وَإِنْ خَلَقَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا كَمَا خَلَقَ الشَّيَاطِينَ . فَنَحْنُ رَاضُونَ عَنْ اللَّهِ فِي أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا نَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ وَفَاعِلُهُ فَلَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَحْمَدُهُ . وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَا يُرَادُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ مَعَ كَوْنِهِ مُبْغِضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ; فَإِنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ يُرَادُ مِنْ وَجْهٍ وَيُكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ ; فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ وَيَكْرَهُهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَحْبُوبٌ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَرِهَ مُسَاءَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَكْرَهُ الْمَوْتَ كَانَ هَذَا مُقْتَضِيًا أَنْ يَكْرَهَ إمَاتَتَهُ مَعَ أَنَّهُ يُرِيدُ إمَاتَتَهُ ; لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَالْأُمُورُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنْهَا لَا تُحَبُّ وَلَا تُرْضَى ; لَكِنْ نَرْضَى بِمَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ حَيْثُ خَلَقَهَا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُبْغِضُهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُحَبّ وَلَا تُرْضَى كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُبْغَضَ . وَالرِّضَا الثَّابِتُ بِالنَّصِّ هُوَ أَنْ يَرْضَى بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ } " وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَدَرِ فَيَرْضَى عَنْ اللَّهِ إذْ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَرْضَى بِمَا يَرْضَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي خَلَقَ لِأَجْلِهَا مَا خَلَقَ وَإِنْ كُنَّا نُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَحَيْثُ انْتَفَى الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ أَوْ خَفِيَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَقْدُورًا . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ خَاصَّةِ " السَّالِكِينَ " وَشُيُوخِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَطَاعَتِهِمْ لَهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَأَطْوَعُ لَهُ فَهَذَا تَكُونُ حَالُهُ أَحْسَنَ مِمَّنْ يَقْصُرُ عَنْهُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالطَّاعَةِ لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْعُدُ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَيَسْتَرْسِلُ حَتَّى يَنْسَلِخَ مِنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَبْقَى وَاقِفًا مَعَ هَوَاهُ وَالْقَدَرِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِ وَنَهْيِ غَيْرِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إمَّا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ الْقَدَرِ مُطْلَقًا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مَفْطُورٌ عَلَى مَحَبَّةِ أَشْيَاءَ وَبُغْضِ أَشْيَاءَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : " إنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ " لَا يَصِحُّ وَلَا يَسُوغُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ; وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِخَفَاءِ أَمْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَإِذَا عَلِمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ .