تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّا أَحْدَثَهُ الْفُقَرَاءُ الْمُجَرَّدُونَ وَالْمُطَوَّعُونَ مِنْ صُحْبَةِ الشَّبَابِ وَمُؤَاخَاةِ النِّسْوَانِ والماجريات وَحَطِّ رُءُوسِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَأَكْلِهِمْ مَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَنْ جَنَى يُشَالُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَيُضْرَبُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَوُقُوفِهِمْ مَكْشُوفِي الرُّءُوسِ مُنْحَنِينَ كَالرَّاكِعِينَ وَوَضْعِ النِّعَالِ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ الصُّوفَ وَالرُّقَعَ وَالسَّجَّادَةَ وَالسُّبْحَةَ وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ . وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرَدُ فَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَصْحَبَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَيَطْلُبُوا مِنْهُ الصُّحْبَةَ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَوْ نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ ؟
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا صُحْبَةُ المردان عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ بِأَحَدِهِمْ - كَمَا يَفْعَلُونَهُ - مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَمْرَدِ الْحَسَنِ وَمَبِيتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ سَائِرِ الْأُمَمِ بَعْدَ قَوْمِ لُوطٍ : تَحْرِيمُ الْفَاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ وَلِهَذَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَحَدٌ مِنْ الْعَالَمِينَ وَقَدْ عَذَّبَ اللَّهُ الْمُسْتَحِلِّينَ لَهَا بِعَذَابِ مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْأُمَمِ حَيْثُ طَمَسَ أَبْصَارَهُمْ وَقَلَّبَ مَدَائِنَهُمْ فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَتْبَعَهُمْ بِالْحِجَارَةِ مِنْ السَّمَاءِ . وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الْفَاحِشَةَ الَّتِي فِيهَا الْقَتْلُ : يُقْتَلُ صَاحِبُهَا بِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ . كَمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأسلمي والغامدية وَغَيْرَهُمْ وَرَجَمَ بَعْدَهُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ . وَالرَّجْمُ شَرَعَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } " . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمَا جَمِيعًا ; لَكِنْ تَنَوَّعُوا فِي صِفَةِ الْقَتْلِ : فَبَعْضُهُمْ قَالَ : يُرْجَمُ وَبَعْضُهُمْ قَالَ : يُرْمَى مِنْ أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ وَبَعْضُهُمْ قَالَ : يُحَرَّقُ بِالنَّارِ ; وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَحَلَّهَا بِمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ . وَكَذَلِكَ مُقَدِّمَاتُ الْفَاحِشَةِ عِنْدَ التَّلَذُّذِ بِقُبْلَةِ الْأَمْرَدِ وَلَمْسِهِ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ هُوَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَحِلُّ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ كَافِرًا فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُهُ قُرْبَةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ غَيْرَ الْحُمْسِ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَجَعَلَ اللَّهُ كَشْفَ عَوْرَاتِهِمْ فَاحِشَةً وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلِهَذَا { لَمَّا حَجَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَادَى بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَحُجُّ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ - لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ } . فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْتَحِلُّ إتْيَانَ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى ؟ أَوْ مَا دُونَهَا ؟ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ عِبَادَةً وَطَرِيقًا . وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَنَكِّسَةِ جَعَلُوا عِشْقَ الصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ مِنْ جُمْلَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي تُزَكَّى بِهَا النُّفُوسُ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى . وَإِنَّمَا هُوَ دِينُ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَإِنْ كَانَ أَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ زَادُوا عَلَى مَا شَرَعَهُ سَادَاتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ زِيَادَاتٍ مِنْ الْفَوَاحِشِ الَّتِي لَا تَرْضَاهَا الْقُرُودُ ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ أَبَا عِمْرَانَ رَأَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا زَنَى بِقِرْدَةِ فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرُودُ فَرَجَمَتْهُ } . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَدْ شَاهَدَهُ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا فِي غَيْرِ الْقُرُودِ حَتَّى الطُّيُورِ . فَلَوْ كَانَتْ صُحْبَةُ " المردان " الْمَذْكُورَةُ خَالِيَةً عَنْ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ فَهِيَ مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ وَسَبَبٌ لَهُ ; وَلِهَذَا كَانَ الْمَشَايِخُ الْعَارِفُونَ بِطَرِيقِ اللَّهِ يُحَذِّرُونَ مِنْ ذَلِكَ . كَمَا قَالَ فَتْحِ الموصلي : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ الْأَبْدَالِ كَلٌّ يَنْهَانِي عِنْدَ مُفَارَقَتِي إيَّاهُ عَنْ صُحْبَةِ الْأَحْدَاثِ . وَقَالَ مَعْرُوفٌ الكرخي : كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ : مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ مِنْ سَبْعٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ بِأَخْوَفَ مِنِّي عَلَيْهِ مِنْ حَدَثٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَبِشْرٌ الْحَافِي : إنَّ مَعَ الْمَرْأَةِ شَيْطَانًا وَمَعَ الْحَدَثِ شَيْطَانَيْنِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا سَقَطَ عَبْدٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ إلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِصُحْبَةِ هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثِ . وَقَدْ دَخَلَ مِنْ فِتْنَةِ الصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ عَلَى النُّسَّاكِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى اعْتَرَفَ أَكَابِرُ الشُّيُوخُ بِذَلِكَ . وَتَابَ مِنْهُمْ مَنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ أَوْ اتَّخَذَهُ دِينًا كَانَ ضَالًّا مُضَاهِيًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَمَنْ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ كَانَ عَاصِيًا أَوْ فَاسِقًا . وَكَذَلِكَ مُؤَاخَاةُ " الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ " بِحَيْثُ يَخْلُو بِهَا وَيَنْظُرُ مِنْهَا مَا لَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَهُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَاِتِّخَاذُ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا كُفْرٌ وَضَلَالٌ . وَالْمَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ لِأَجْلِ إقْرَارِهِمْ وَمَعُونَةً عَلَى مُحَادَثَةِ الرَّجُلِ الْأَمْرَدِ هِيَ مِنْ جِنْسِ جُعْلِ القوادة وَمُطَالَبَتِهِمْ لَهُ بِالصُّحْبَةِ مِنْ جِنْسِ الْعُرْسِ عَلَى الْبَغْيِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ النِّكَاحَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ فَالْمَرْأَةُ الْمُسَافِحَةُ تَزْنِي بِمَنْ اتَّفَقَ لَهَا وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُسَافِحُ : الَّذِي يَزْنِي مَعَ مَنْ اتَّفَقَ لَهُ . وَأَمَّا الْمُتَّخِذُ الْخِدْنَ فَهُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ صَدِيقَةٌ وَالْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا صَدِيقٌ فَالْأَمْرَدُ الْمُخَادِنُ لِلْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمَرْأَةِ الْمُتَّخَذَةِ خِدْنًا . وَكَذَلِكَ الْجُعْلُ وَالْمَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى هَذَا مِنْ جِنْسِ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَجُعْلِ القوادة وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا " الماجريات " فَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ وَجَبَ أَنْ يُقَامَ فِي أَمْرِهِمَا بِالْقِسْطِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } . وَقَالَ { كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } وَقَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ اقْتِتَالَهُمَا كَانَ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } . وَقَالَ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } . وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } الْآيَةَ . فَإِنْ كَانَ الشَّخْصَانِ قَدْ اخْتَصَمَا نَظَرَ أَمْرَهُمَا فَإِنْ تَبَيَّنَ ظُلْمُ أَحَدِهِمَا كَانَ الْمَظْلُومُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَالْعَفْوِ وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ فَإِنْ كَانَ ظُلْمُهُ بِضَرْبِ أَوْ لَطْمٍ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ أَوْ يَلْطِمَهُ كَمَا فَعَلَ بِهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُؤَدَّبُ وَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَّهُ فَلَهُ أَنْ يَسُبَّهُ مِثْلَ مَا سَبَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ عَلَى حَقٍّ مَحْضٍ لِلَّهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ . فَإِذَا لَعَنَهُ أَوْ سَمَّاهُ بِاسْمِ كَلْبٍ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا لَعَنَ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْعَنَ أَبَاهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُ . وَإِنْ افْتَرَى عَلَيْهِ كَذِبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ كَذِبًا ; لِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ . كَمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِصَاصِ فِي الْبَدَنِ : أَنَّهُ إذَا جَرَحَهُ أَوْ خَنَقَهُ أَوْ ضَرَبَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ . فَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ كَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَوْ تَجْرِيعِهِ الْخَمْرَ فَقَدْ نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُهُمْ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ سَوَّغَهُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ . وَإِذَا اعْتَرَفَ الظَّالِمُ بِظُلْمِهِ وَطَلَبَ مِنْ الْمَظْلُومِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لَهُ فَهَذَا حَسَنٌ مَشْرُوعٌ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : { أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ طَلَبَ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَأَبَى عُمَرُ ثُمَّ نَدِمَ . فَطَلَبَ أَبَا بَكْرٍ فَوَجَدَهُ قَدْ سَبَقَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ; إنِّي قَدْ جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت : إنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُمْ : كَذَبْت ; وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي } ؟ " . وَإِذَا طَلَبَ مِنْ الْمَظْلُومِ الْعَفْوَ بَعْدَ اعْتِرَافِ الظَّالِمِ فَأَجَابَ : كَانَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ أَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنْ أَبَى إلَّا طَلَبَ حَقِّهِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا . لَكِنْ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْأَفْضَلَ الْأَحْسَنَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ تَرْكِ الْإِحْسَانِ الَّذِي [ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ] يُحْسَبُ خَارِجًا عَنْ الطَّرِيقِ خَرَجَ عَنْهُ جُمْهُورُ أَهْلِهِ . وَ " أَوْلِيَاءُ اللَّهِ " عَلَى صِنْفَيْنِ : مُقَرَّبِينَ سَابِقِينَ وَأَصْحَابِ يَمِينٍ مُقْتَصِدِينَ . كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ . وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } " . ثُمَّ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَذُمُّونَ تَارِكَ الْعَفْوِ إنَّمَا يَذُمُّونَهُ لِأَهْوَائِهِمْ لِكَوْنِ الظَّالِمِ صَدِيقَ أَحَدِهِمْ أَوْ وَرِيثَهُ أَوْ قَرِينَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ الْعَدْلَ فِي الصُّلْحِ كَمَا أَوْجَبَهُ فِي الْحُكْمِ . فَقَالَ تَعَالَى : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } . وَقَيَّدَ الْإِصْلَاحَ الَّذِي يُثِيبُ عَلَيْهِ بِالْإِخْلَاصِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } . إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقْصِدُونَ الْإِصْلَاحَ : إمَّا لِسُمْعَةِ وَإِمَّا لِرِيَاءِ . وَمِنْ الْعَدْلِ أَنْ يُمَكَّنَ الْمَظْلُومُ مِنْ الِانْتِصَافِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفَاعَةُ إلَى الْمَظْلُومِ فِي الْعَفْوِ وَيُصَالِحُهُ الظَّالِمُ وَتَرْغِيبُهُ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ حُقُوقَ الْعِبَادِ الَّتِي فِيهَا وِزْرُ الظَّالِمِ نَدَبَ فِيهَا إلَى الْعَفْوِ . كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } . وَقَوْلُهُ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : { مَا رُفِعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي الْقِصَاصِ إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ } " وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ طَلَبِ الْعَفْوِ مِنْ الْمَظْلُومِ أَنَّ الظَّالِمَ يَقُومُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَا يَضَعُ نَعْلَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَلْتَزِمُهُ بَعْضُ النَّاسِ . وَإِنَّمَا شَرْطُهُ التَّمْكِينُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ . فَإِذَا أَمْكَنَ الْمَظْلُومُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ . ثُمَّ الْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ [ عَفَا ] وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى . وَلِلْمَظْلُومِ أَنْ يَهْجُرَهُ ثَلَاثًا وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْجُرَهُ عَلَى ظُلْمِهِ إيَّاهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ } . وَأَمَّا إذَا كَانَ الذَّنْبُ لِحَقِّ اللَّهِ كَالْكَذِبِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ إضَاعَةِ الصَّلَاةِ بِالتَّفْرِيطِ وَوَاجِبَاتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّوْبَةِ . وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ التَّوْبَةِ إظْهَارُ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَمَلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . وَإِذَا كَانَ لَهُمْ شَيْخٌ مُطَاعٌ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ الْعَاصِيَ بِحَسَبِ ذَنْبِهِ تَعْزِيرًا يَلِيقُ بِمِثْلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمِثْلِهِ مِثْلِ هَجْرِهِ مُدَّةً كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الْمُخَلَّفِينَ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ : يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَفَرَّقَتْ الْأُمُورُ فَصَارَ أُمَرَاءُ الْحَرْبِ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ الظَّاهِرِ وَشُيُوخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَهَؤُلَاءِ أُولُو أَمْرٍ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ الَّتِي هُمْ أُولُو أَمْرِهَا . وَهُوَ كَذَلِكَ فَسَّرَ أُولُو الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } بِأُمَرَاءِ الْحَرْبِ : مِنْ الْمُلُوكِ وَنُوَّابِهِمْ وَبِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ قِوَامَ الدِّينِ بِالْكِتَابِ وَالْحَدِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } . وَإِذَا كَانَ وُلَاةُ الْحَرْبِ عَاجِزِينَ وَمُفَرِّطِينَ عَنْ تَقْوِيمِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الطَّرِيقِ كَانَ تَقْوِيمُهُمْ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ وَكَانَ لَهُمْ مِنْ تَعْزِيرِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ مَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُمْ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ . وَهُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } " . وَقَدْ يَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِنَفْيِهِ عَنْ وَطَنِهِ مُدَّةً كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْفِي مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ . وَكَمَا نُفِيَ نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ إلَى الْبَصْرَةِ لِخَوْفِ فِتْنَةِ النِّسَاءِ بِهِ وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفْيِ فِي الزِّنَا وَنَفْيِ الْمُخَنَّثِ وَأَمْرِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لِلْمُسِيءِ بِالسَّفَرِ هَذَا أَصْلُهُ . وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ بِبَيَانِ الذُّنُوبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَشُرُوطِ التَّوْبَةِ وَهُوَ حَالٌ مُسْتَصْحِبٌ لِلْعَبْدِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } الْآيَةَ . وَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ وَأَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةً لِلتَّطَهُّرِ مِنْ ذَنْبِهِ : كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَشْرُوعًا . قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ . وَالْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ } { وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك . فَهُوَ خَيْرٌ لَك } . لَكِنْ لَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِصَدَقَةِ . وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَا بِإِخْرَاجِ ثِيَابِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ مُطَالَبَتَهُ بِالتَّوْبَةِ أَنْ يُؤْكَلَ مَالُهُ لَا سِيَّمَا إذَا أَعْنَتَ فَجُعِلَ لَهُ ذَنْبٌ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ ; فَإِنَّ هَذَا يَبْقَى كَذِبًا وَظُلْمًا وَأَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا يُخْرِجُهُ صَدَقَةً مَصْرُوفًا فِي طَعَامٍ يَأْكُلُونَهُ ; بَلْ الْخِيَرَةُ إلَيْهِ بِوَضْعِهِ حَيْثُ يَكُونُ أَصْلَحَ وَأَطْوَعَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ أَحَقُّ النَّاسِ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ فَتُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ مِنْ جُمْلَةِ التَّوْبَةِ صَنْعَةَ طَعَامٍ وَدَعْوَةً فَهَذَا بِدْعَةٌ . فَمَا زَالَ النَّاسُ يَتُوبُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ . وَأَمَّا الشُّكْرُ الَّذِي فِيهِ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ : كَمَلْبُوسِ أَوْ غَيْرِهِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ إمَّا مِنْ تَوْبَةٍ وَإِمَّا إصْلَاحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ ; فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا جَاءَهُ الْمُبَشِّرُ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ : أَعْطَاهُ ثَوْبَهُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَاسْتَعَارَ ثَوْبًا ذَهَبَ فِيهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ تَعْيِينَ اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ فِي الشُّكْرِ بِدْعَةٌ أَيْضًا . فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا فَهُوَ حَسَنٌ فَلَا يُجْعَلُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا إلَّا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَلَا يُنْكَرُ إلَّا مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَ اللَّهُ وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ . وَضَرْبُ الرَّجُلِ تَحْتَ رِجْلَيْهِ هُوَ مِنْ التَّعْزِيرِ ; فَإِنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَالْمُؤَدِّبُ لَهُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ . وَأَمَّا كَشْفُ الرُّءُوسِ وَالِانْحِنَاءُ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ . إنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ عَادَاتِ بَعْضِ الْمُلُوكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَالْمَخْلُوقُ لَا يَسْأَلُ كَشْفَ رَأْسٍ وَلَا رُكُوعَ لَهُ . وَإِنَّمَا يَرْكَعُ لِلَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَكَشْفُ الرُّءُوسِ لِلَّهِ فِي الْإِحْرَامِ . وَأَمَّا " لِبَاسُ الصُّوفِ " فَقَدْ لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةَ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ ; وَلِهَذَا قَالَ الأوزاعي : لِبَاسُ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ وَفِي الْحَضَرِ بِدْعَةٌ . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ [ بِدْعَةٌ ] كَمَا رَوَيْنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين : أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَقْوَامًا يَتَحَرَّوْنَ لِبَاسَ الصُّوفِ . قَالَ : أَظُنُّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ يَلْبَسُ الصُّوفَ فَلَبِسُوهُ لِذَلِكَ وَهَدْيُ نَبِيِّنَا أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ هَدْيِ غَيْرِهِ . وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْجُمْعَةَ وَلِبَاسُهُمْ الصُّوفُ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " { قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ } " وَالنِّمَارُ مِنْ الصُّوفِ . وَقَدْ لَبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُطْنَ وَغَيْرَهُ . وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اتِّخَاذَ لُبْسِ الصُّوفِ عِبَادَةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ [ بِدْعَةٌ ] . وَأَمَّا لُبْسُهُ لِلْحَاجَةِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِلْفَقِيرِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ أَوْ لِعَدَمِ لُبْسِ غَيْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ . وَالِامْتِنَاعُ مِنْ لُبْسِهِ مُطْلَقًا مَذْمُومٌ لَا سِيَّمَا مَنْ يَدَّعِي لُبْسَهُ كِبْرًا وَخُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ إذْ خُسِفَتْ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } " وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشهرتين مِنْ الثِّيَابِ : الْمُرْتَفِعَ وَالْمُنْخَفِضَ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ الدِّينِ وَمِنْ طَرِيقِ اللَّهِ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّقْيِيدُ فِيهِ فَسَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . فَإِنَّ لُبْسَ الصُّوفِ وَتَرْقِيعَ الثَّوْبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَسَنٌ مِنْ أَفْعَالِ السَّلَفِ . وَالِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا مَذْمُومٌ . فَأَمَّا مَنْ عَمَدَ إلَى ثَوْبٍ صَحِيحٍ فَمَزَّقَهُ ثُمَّ يُرَقِّعُهُ بِفَضَلَاتِ وَيَلْبَسُ الصُّوفَ الرَّفِيعَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ . فَهَذَا جَمْعُ فَسَادَيْنِ : أَمَّا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يَظُنُّ التَّقْيِيدَ بِلُبْسِ الْمُرَقَّعِ وَالصُّوفِ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ صُورَةَ ذَلِكَ دُونَ حَقِيقَتِهِ فَيَكُونُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُنْفَقُ عَلَى الْقُطْنِ الصَّحِيحِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلزُّهْدِ . وَفَسَادُ الْمَالِ بِإِتْلَافِهِ وَإِنْفَاقِهِ فِيمَا لَا يَنْفَعُ لَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا .