تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ عَنْ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ . هَلْ لَهَا حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ ؟ وَهَلْ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا سَبْعٌ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ صَحِيحًا ؟ أَوْ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَا اتَّفَقَتْ فِيهَا الشَّرَائِعُ - أَعْنِي عَلَى تَحْرِيمِهَا ؟ - أَوْ إنَّهَا مَا تَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ ؟ أَوْ إنَّهَا مَا تُذْهِبُ الْأَمْوَالَ وَالْأَبْدَانَ ؟ أَوْ إنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مَا دُونَهَا ؟ أَوْ إنَّهَا لَا تُعْلَمُ أَصْلًا وَأُبْهِمَتْ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ ؟ أَوْ يَحْكِي بَعْضُهُمْ أَنَّهَا إلَى التِّسْعِينَ أَقْرَبَ أَوْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ أَوْ أَنَّهَا مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا حَدٌّ . أَوْ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ ؟
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ : أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونُ الْحَدَّيْنِ : حَدُّ الدُّنْيَا وَحَدُّ الْآخِرَةِ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةِ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ أَيْ " وَعِيدٌ خَاصٌّ " كَالْوَعِيدِ بِالنَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَعِيدَ الْخَاصَّ فِي الْآخِرَةِ . كَالْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ فِي الدُّنْيَا . فَكَمَا أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ لِلنَّاسِ بَيَّنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُقَدَّرَةَ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَجَلْدِ مِائَةٍ أَوْ ثَمَانِينَ وَبَيَّنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُقَدَّرَةٍ : وَهِيَ " التَّعْزِيرُ " فَكَذَلِكَ يُفَرَّقُ فِي الْعُقُوبَاتِ الَّتِي يُعَزِّرُ اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ - فِي غَيْرِ أَمْرِ الْعِبَادِ بِهَا - بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُقَدَّرَةِ : كَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ وَالنَّارِ . وَبَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُطْلَقَةِ . وَهَذَا " الضَّابِطُ " يَسْلَمُ مِنْ الْقَوَادِحِ الْوَارِدَةِ عَلَى غَيْرِهِ ; فَإِنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ مَا ثَبَتَ فِي النَّصِّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ : كَالشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسِّحْرِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي فِيهَا عُقُوبَاتٌ مُقَدَّرَةٌ مَشْرُوعَةٌ وَكَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ ; فَإِنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ وَأَمْثَالَهَا فِيهَا وَعِيدٌ خَاصٌّ كَمَا قَالَ فِي الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } وَقَالَ : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَقِيلَ فِيهِ : مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ . فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ } " وَقَوْلُهُ : " { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } وَقَوْلُهُ : { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } " . وَقَوْلُهُ : { مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا } " . وَقَوْلُهُ : " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ وَكَوْنَهُ لَيْسَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا ; فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خِيَارِهِمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ : إنَّهُ صَارَ كَافِرًا . وَلَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ : مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا . فَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَكِنْ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا عِقَابٍ هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبِ الْمَحَارِمَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْكَبَائِرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ هُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى تِلْكَ الْكَبِيرَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِهِ نَفْيَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ أَوْ نَفْيَ كَمَالِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ تَرْكَ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ لَا يُوجِبُ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ وَالْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ : الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى : كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ . ثُمَّ مَنْ عَدَلَ عَنْ الْغُسْلِ الْكَامِلِ إلَى الْمُجْزِئِ لَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا . فَمَنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ " أَنَّهُ نَفْيُ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ فَقَدْ غَلِطَ . وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَلَكِنْ يَقْتَضِي نَفْيَ الْكَمَالِ الْوَاجِبِ . وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي سَائِرِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَمِثْلُ الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ : " { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } " وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي مُسَمَّى الِاسْمِ إلَّا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ ; لَا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مُسْتَحَبَّاتِهِ فَيُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَخْرُجُ مَنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } " . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ وَالْجَنَّةِ أَوْ كَوْنَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ كَبِيرَةٍ . أَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا تَنْفِي هَذَا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ عَنْ صَاحِبِهَا بِمُجَرَّدِهَا . فَيُعْرَفُ أَنَّ هَذَا النَّفْيَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ وَلَا لِفِعْلِ صَغِيرَةٍ بَلْ لِفِعْلِ كَبِيرَةٍ . وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ هَذَا الضَّابِطَ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ الْمَذْكُورَةِ لِوُجُوهِ : ( أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ بِخِلَافِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ ; فَإِنَّهَا لَا تُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا قَالَهَا بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ التَّصَوُّفِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : إنَّهَا إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ فَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَاحِدًا وَاحِدًا . ( الثَّانِي أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } فَقَدْ وَعَدَ مُجْتَنِبَ الْكَبَائِرِ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَاسْتِحْقَاقِ الْوَعْدِ الْكَرِيمِ . وَكُلُّ مَنْ وُعِدَ بِغَضَبِ اللَّهِ أَوْ لَعْنَتِهِ أَوْ نَارٍ أَوْ حِرْمَانِ جَنَّةٍ أَوْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْوَعْدِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مُجْتَنِبِي الْكَبَائِرِ . وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَاتُهُ مُكَفَّرَةً عَنْهُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ . ( الثَّالِثُ أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ مَرْجِعُهُ إلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الذُّنُوبِ ; فَهُوَ حَدٌّ يُتَلَقَّى مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَيْسَ مُتَلَقًّى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; بَلْ هُوَ قَوْلُ رَأْيِ الْقَائِلِ وَذَوْقِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَالرَّأْيُ وَالذَّوْقُ بِدُونِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَجُوزُ . ( الرَّابِعُ أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ وَأَمَّا تِلْكَ الْأُمُورُ فَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهَا بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا اتَّفَقَتْ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَاخْتَلَفَتْ لَا يُعْلَمُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُ عَالَمٍ بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ عَلَى وَجْهِهَا وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا . وَكَذَلِكَ " مَا يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ " هُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ عَنْ زَيْدٍ مَا لَا يَسُدُّ عَنْ عَمْرٍو وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ . ( الْخَامِسُ أَنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ فَاسِدَةٌ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَا اتَّفَقَتْ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ دُونَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ . يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْحَبَّةُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَمِنْ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْكِذْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَبَعْضِ الْإِسَاءَاتِ الْخَفِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ . وَأَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ ; إذْ الْجِهَادُ لَمْ يَجِبْ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّزَوُّجُ بِالْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ وَالصَّهْرِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ تَتَّفِقْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ . وَكَذَلِكَ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَوَطْئِهَا بَعْدَ ذَلِكَ . مَعَ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَا تَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ أَوْ ذَهَابَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ ; يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَلِيلُ مِنْ الْغَضَبِ وَالْخِيَانَةِ كَبِيرَةً . وَأَنْ يَكُونَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهَا وَأَنَّ مَا عَصَى اللَّهَ بِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ الذُّنُوبُ فِي نَفْسِهَا تَنْقَسِمُ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ . وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } وَقَالَ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وَقَالَ : { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا } وَقَالَ : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ . وَمَنْ قَالَ : هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا مُبْهَمَةٌ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ . فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ قَدْ يُقَالُ : إنَّ فِيهِ تَقْصِيرًا إذْ الْوَعِيدُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّارِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهَا وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ كُلَّ وَعِيدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْوَعِيدَ بِالنَّارِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ فَهَذَا يَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ ; فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وَعِيدٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَإِنَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيهَا وَعِيدٌ . كَمَنْ قَالَ : إنَّ الْكَبِيرَةَ مَا فِيهَا وَعِيدٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .