تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ . الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا . مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَصْلٌ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ يَكُونُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَ " الْأَوَّلُ " يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وَقَالَ : { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَنَقُولُ : التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَكُونُ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ وَمِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ ; فَإِنَّ كِلَاهُمَا مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ . وَتَرْكُ " الْإِيمَانِ " وَ " التَّوْحِيدُ " وَ " الْفَرَائِضُ " الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ مِنْ الذُّنُوبِ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ . بَلْ هِيَ أَعْظَمُ الصِّنْفَيْنِ . كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِيمَا كَتَبْنَاهُ مِنْ " الْقَوَاعِدِ " قَبْلَ ذَهَابِي إلَى مِصْرَ . فَإِنَّ جِنْسَ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ إذْ قَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ لَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ . وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَ مُخَلَّدًا وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَفْعَالِ قَلِيلَةً : كَالزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَعُبَّادِ مُشْرِكِي الْهِنْدِ وَعُبَّادِ النَّصَارَى ; وَغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَ وَلَا يَزْنُونَ وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ ; لَكِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْوَاجِبِ تَرَكُوهُ . وَلَكِنْ يُقَالُ : تَرْكُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الْوَاجِبِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ وَضِدُّهُ إذَا كَانَ كُفْرًا فَهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ضِدُّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحَاتِ كَالِاشْتِغَالِ بِأَهْوَاءِ النَّفْسِ وَلَذَّاتِهَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالرِّئَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . فَالْعُقُوبَةُ هُنَا لِأَجْلِ تَرْكِ الْإِيمَانِ ; لَا لِأَجْلِ تَرْكِ هَذَا الْجِنْسِ . وَقَدْ يُقَالُ : كُلُّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فَلَا يَتْرُكُهُ إلَّا إلَى كُفْرٍ وَشِرْكٍ ; فَإِنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ إلَهٍ تَعْبُدُهُ فَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ الرَّحْمَنَ عَبَدَ الشَّيْطَانَ . فَيُقَالُ : عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ جِنْسٌ عَامٌّ وَهَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا هُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ يُقَالُ : عَبَدَهُ . كَمَا أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ عَبَدَهُ وَلَكِنْ عِبَادَةٌ دُونَ عِبَادَةٍ . وَالنَّاسُ " نَوْعَانِ " طُلَّابُ دِينٍ وَطُلَّابُ دُنْيَا . فَهُوَ يَأْمُرُ طُلَّابَ الدِّينِ بِالشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ كَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَيَأْمُرُ طُلَّابَ الدُّنْيَا بِالشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ وَمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ } وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمَّا ذَكَرَ الْحَدِيثَ " لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةٌ وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَإِنَّ صَاحِبَهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ . فَقَالُوا : أَنْتَ إذَا مَرَرْت فِي السُّوقِ أَشَارَ إلَيْك النَّاسُ . فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَعْنِ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُبْتَدِعَ فِي دِينِهِ وَالْفَاجِرَ فِي دُنْيَاهُ . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى " النَّوْعَيْنِ " فِي مَوَاضِعَ . كَمَا ذَكَرْنَا فِي " اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ وَفِعْلَ الْمُحَرَّمِ مُتَلَازِمَانِ ; وَلِهَذَا كَانَ مَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ يُقَالُ : إنَّهُ عَصَى الْأَمْرَ . وَلَوْ قَالَ لَهَا : إنْ عَصَيْت أَمْرِي فَأَنْتِ طَالِقٌ . فَنَهَاهَا فَعَصَتْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تُطَلَّقُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ عَاصِيًا وَيَجْعَلُونَ هَذَا فِي الْأَصْلِ نَوْعَيْنِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ نَهْيٍ فَفِيهِ طَلَبٌ وَاسْتِدْعَاءٌ لِمَا يَقْصِدُهُ النَّاهِي . فَهُوَ أَمْرٌ فَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا . وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَضِرِ لِمُوسَى : { إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } { قَالَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } . وَقَالَ لَهُ : { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } . فَقَوْلُهُ : { فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } ؟ قَدْ تَنَاوَلَهُ قَوْلُهُ : { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } . وَمِنْهُ قَوْلُ مُوسَى لِأَخِيهِ : { مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا } { أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وَمُوسَى قَالَ لَهُ : { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } نَهْيٌ . وَهُوَ لَامَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ وَقَالَ : أَفَعَصَيْت أَمْرِي ؟ وَعُبَّادُ الْعِجْلِ كَانُوا مُفْسِدِينَ . وَقَدْ جَعَلَ هَذَا كُلَّهُ أَمْرًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فَهُمْ لَا يَعْصُونَهُ إذَا نَهَاهُمْ وَقَوْلُهُ عَنْ الرَّسُولِ : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَمَنْ رَكِبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } وَإِنَّمَا كَانَ فِعْلًا مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَقَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } هُوَ يَتَنَاوَلُ مَا نُهِيَ عَنْهُ أَقْوَى مِمَّا يَتَنَاوَلُ مَا أُمِرَ بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } " . وَقَوْلُهُ : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ } فَالْمَعْصِيَةُ مُخَالِفَةُ الْأَمْرِ وَمُخَالِفُ النَّهْيِ عَاصٍ ; فَإِنَّهُ مُخَالِفُ الْأَمْرِ وَفَاعِلُ الْمَحْظُورِ قَدْ يَكُونُ أَظْهَرَ مَعْصِيَةً مِنْ تَارِكِ الْمَأْمُورِ . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِشَيْءِ فَقَدْ نُهِيَ عَنْ فِعْلِ ضِدِّهِ وَمَنْ نُهِيَ عَنْ فِعْلٍ فَقَدْ أُمِرَ بِفِعْلِ ضِدِّهِ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ ; وَلَكِنْ لَفْظُ " الْأَمْرِ " يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ وَاللَّفْظُ الْعَامُّ قَدْ يَخُصُّ أَحَدَ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ وَيَبْقَى الِاسْمُ الْعَامُّ لِلنَّوْعِ الْآخَرِ فَلَفْظُ الْأَمْرِ عَامٌّ لَكِنْ خَصُّوا أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَإِذَا قُرِنَ النَّهْيُ بِالْأَمْرِ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ لَا الْعُمُومُ .