تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْقُدْوَةُ الْعَارِفُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ السَّالِكُ النَّاسِكُ مُفْتِي الْفِرَقِ رُكْنُ الشَّرِيعَةِ عَالِمُ الْعَصْرِ فَرِيدُ الدَّهْرِ ; تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَارِثُ الْأَنْبِيَاءِ آخِرُ الْمُجْتَهِدِينَ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تيمية الحراني تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ . فَصْلٌ فِي إقْسَامِ الْقُرْآنِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِأُمُورِ عَلَى أُمُورٍ وَإِنَّمَا يُقْسِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهِ أَوْ بِآيَاتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِقْسَامُهُ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ . فَالْقَسَمُ إمَّا عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ وَهُوَ الْغَالِبُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ } . وَإِمَّا عَلَى جُمْلَةٍ طَلَبِيَّةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَسَمَ قَدْ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَحْضُ الْقَسَمِ . وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ يُرَادُ بِالْقَسَمِ تَوْكِيدُهُ وَتَحْقِيقُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَحْسُنُ فِيهِ ذَلِكَ كَالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَالْخَفِيَّةِ إذَا أَقْسَمَ عَلَى ثُبُوتِهَا . فَأَمَّا الْأُمُورُ الْمَشْهُودَةُ الظَّاهِرَةُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ; فَهَذِهِ يُقْسِمُ بِهَا وَلَا يُقْسِمُ عَلَيْهَا وَمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ ; فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْسَمًا بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُ جَوَابَ الْقَسَمِ تَارَةً وَهُوَ الْغَالِبُ . وَتَارَةً يَحْذِفُهُ كَمَا يُحْذَفُ جَوَابُ لَوْ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } { وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ } { وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ } { وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ } { وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } . وَمِثْلُ هَذَا حَذْفُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّك لَوْ رَأَيْته لَرَأَيْت هَوْلًا عَظِيمًا ; فَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْجَوَابِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا دَلَّ الْمُحَرَّم وَهُوَ أَيْضًا تَنْبِيهٌ . فَإِذَا أَقْسَمَ بِهِ وَفِيهِ الْحَلَالُ فَإِذَا كَانَ فِيهِ الْحَرَامُ كَانَ أَوْلَى بِالتَّعْظِيمِ وَكَذَلِكَ إذَا أُرِيدَ الْحُلُولُ فَإِنَّهُ هُوَ السَّلْبِيُّ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ . وَقَدْ أَقْسَمَ بـ ( التِّينِ وَالزَّيْتُونِ و ( الْبَلَدِ الْأَمِينِ . وَالْجَوَابُ مَذْكُورٌ فِي قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } وَهُوَ مُكَابَدَةُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذِهِ الْمُكَابَدَةُ تَقْتَضِي قُوَّةَ صَاحِبِهَا وَكَثْرَةَ تَصَرُّفِهِ وَاحْتِيَالِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا } { أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ } فَهَذَا الْإِنْسَانُ مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ وَمِنْ جِنْسِ الَّذِي قَالَ : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ } { هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } لَهُ قُوَّةٌ يُكَابِدُ بِهَا الْأُمُورَ وَكُلٌّ أَهْلَكَهُ أَفَيَظُنُّ مَعَ هَذَا أَنَّهُ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيُجَازِيهِ بِأَعْمَالِهِ ؟ وَيَحْسَبُ أَنَّ مَا أَهْلَكَهُ مِنْ الْمَالِ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فَيَعْلَمُ مَا فَعَلَ ؟ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ بِهِمَا يَحْصُلُ الْجَزَاءُ ; بَلْ بِهِمَا يَحْصُلُ كُلُّ شَيْءٍ وَإِخْبَارُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَادِرٌ وَأَنَّهُ عَالِمٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ ; فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا أَمْكَنَ الْجَزَاءُ وَإِذَا كَانَ عَالِمًا أَمْكَنَ الْجَزَاءُ فَبِالْعَدْلِ يَقْدِرُ مَا عَمِلَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَالِمًا لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَزَاءُ فَإِنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الشَّخْصِ لَا يُمْكِنُهُ جَزَاؤُهُ وَاَلَّذِي لَهُ قُدْرَةٌ لَكِنْ لَا يَرَى مَا فَعَلَ إنْ جَازَاهُ بِلَا عِلْمٍ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا فَعَلَ . وَلِهَذَا كَانَ الْحَاكِمُ يَحْتَاجُ إلَى الشُّهُودِ وَالْمُلُوكُ يَحْتَاجُونَ إلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ يُخْبِرُونَهُمْ بِمَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا ; لِيَكُونَ عَمَلُهُمْ بِعِلْمِ ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؟ وَلَنْ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ يَقُولُ : أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَحَدٌ وَلِهَذَا كَانَ ذَاكَ الْخَائِفُ مِنْ رَبِّهِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَهُ بِإِحْرَاقِهِ وذرايته يَعْلَمُ أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُدْرَةِ فَقَالَ : { لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُهَدِّدُ بِالْقُدْرَةِ لِكَوْنِ الْمَقْدُورِ يَقْتَرِنُ بِهَا ; كَمَا يُهَدِّدُ بِالْعِلْمِ لِكَوْنِ الْجَزَاءِ يَقَعُ مَعَهُ كَمَا فِي { قَوْله تَعَالَى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ : أَعُوذُ بِوَجْهِك أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } فَقَالَ : هَاتَانِ أَهْوَنُ } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي ذِكْرِ الْقُدْرَةِ وَنَوْعِ الْمَقْدُورِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : أَيْنَ تَهْرُبُ مِنِّي ؟ أَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُمْسِكَك . وَكَذَلِكَ فِي الْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ كَقَوْلِهِ هُنَا : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ } وقَوْله تَعَالَى فِي الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } وقَوْله تَعَالَى { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَقَوْلِهِ : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } . وقَوْله تَعَالَى { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَذِكْرُ رُؤْيَتِهِ الْأَعْمَالَ وَعِلْمِهِ بِهَا وَإِحْصَائِهِ لَهَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : قَدْ عَلِمْت مَا فَعَلْت وَقَدْ جَاءَتْنِي أَخْبَارُك كُلُّهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِقُدْرَةِ مُجَرَّدَةٍ وَعِلْمٍ مُجَرَّدٍ ; لَكِنْ بِقُدْرَةِ وَعِلْمٍ يَقْتَرِنُ بِهِمَا الْجَزَاءُ ; إذْ كَانَ مَعَ حُصُولِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يُمْكِنُ الْجَزَاءُ ; وَيَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَةِ الْمُجَازِي لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى شَيْءٍ حِينَئِذٍ ; فَيَجِبُ طَلَبُ النَّجَاةِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إلَيْهِ وَعَمَلِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ .