مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا } الْآيَةَ . وَمِنْ الْمَشْهُورِ فِي التَّفْسِيرِ : أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ رِجَالًا سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِبَادَتِهِ فِي السِّرِّ فتقالوا ذَلِكَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ : { رَدّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } . وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَالْمِقْدَادَ وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فِي أَصْحَابٍ لَهُمْ تَبَتَّلُوا فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَحَرَّمُوا الطَّيِّبَاتِ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهَمُّوا بِالِاخْتِصَاءِ وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ وَذَمَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَاَلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا وَيُرِيدُونَ مَيْلَ الْمُؤْمِنِينَ مَيْلًا عَظِيمًا . وَذَمَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَاَلَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ . وَأَكْثَرُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ شربة الْخَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ } فَجَمَعُوا بَيْنَ الشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَتَرْكِ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ . ثُمَّ نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَعَنْ الِاعْتِدَاءِ فِي تَنَاوُلِهَا وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَقَدْ فَسَّرَ الِاعْتِدَاءَ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ بِأَنْ يُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَيَفْعَلُوا مِنْ الْعِبَادَةِ مَا يَضُرُّهُمْ فَيَكُونُوا قَدْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ وَأَسْرَفُوا . وَقِيلَ : لَا يَحْمِلَنَّكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ عَلَى الْإِسْرَافِ وَتَنَاوُلِ الْحَرَامِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَإِنَّ آكِلَ الطَّيِّبَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُعْتَدِيَ فِيهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ لِأَجْلِ الْإِسْرَافِ فِي ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ بِالزُّهْدِ تَرْكُ مَا يَضُرُّ الْعَبْدَ فِي الْآخِرَةِ وَبِالْعِبَادَةِ فِعْلُ مَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ فَإِذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ مَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَيَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ وَفَعَلَ مِنْ الْعِبَادَةِ مَا يَضُرُّ فَقَدْ اعْتَدَى وَأَسْرَفَ وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ زُهْدًا نَافِعًا وَعِبَادَةً نَافِعَةً . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقتادة والنخعي : { وَلَا تَعْتَدُوا } أَيْ لَا تَجُبُّوا أَنْفُسَكُمْ وَقَالَ عِكْرِمَةُ لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ تَرْكِ النِّسَاءِ وَدَوَامِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : لَا تُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَعَنْ الْحَسَنِ لَا تَأْتُوا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا مَا أُرِيدَ بِهِ لَا تُحَرِّمُوا الْحَلَالَ وَلَا تَفْعَلُوا الْحَرَامَ ; فَيَكُونُ قَدْ نَهَى عَنْ النَّوْعَيْنِ ; لَكِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ وَسِيَاقَهَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَدْ يُقَالُ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } وَقَوْلِهِ فِي تَمَامِ الْآيَةِ : { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا } الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ : لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَوْلِ الْآخَرِ لَا آكُلُ اللَّحْمَ . كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ مَكْرُوهٌ وَكَذَلِكَ مُدَاوَمَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ .