مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
( فَصْلٌ ) : وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ ; وَاتِّبَاعُهَا كَمَا جَاءَتْ - بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ - مِثْلُ الْكَلَامِ : فِي ( الْقُرْآنِ وَ ( سَائِرِ الصِّفَاتِ فَإِنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ ; مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عيينة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - وَكَانَ مِنْ التَّابِعِينَ الْأَعْيَانِ - قَالَ : مَا زِلْت أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ . وَالْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَءُوهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ ; وَإِنْ تَلَاهُ الْعِبَادُ وَبَلَغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ . فَإِنَّ الْكَلَامَ لِمَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا لِمَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } وَهَذَا الْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } . وَقَالَ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } . وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ بِحُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ كُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ اللَّهِ . وَإِعْرَابُ الْحُرُوفِ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْحُرُوفِ ; كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشَرُ حَسَنَاتٍ } وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ . وَإِذَا كَتَبَ الْمُسْلِمُونَ مُصْحَفًا فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ لَا يُنَقِّطُوهُ وَلَا يُشَكِّلُوهُ جَازَ ذَلِكَ ; كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَكْتُبُونَ الْمَصَاحِفَ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيطٍ وَلَا تَشْكِيلٍ ; لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ . وَهَكَذَا هِيَ الْمَصَاحِفُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْأَمْصَارِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ . ثُمَّ فَشَا " اللَّحْنُ " فَنُقِّطَتْ الْمَصَاحِفُ وَشُكِّلَتْ بِالنُّقَطِ الْحُمْرِ ثُمَّ شُكِّلَتْ بِمِثْلِ خَطِّ الْحُرُوفِ ; فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ . وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ قِيلَ : يُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ : وَقِيلَ : لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ . وَقِيلَ يُكْرَهُ النُّقَطُ دُونَ الشَّكْلِ لِبَيَانِ الْإِعْرَابِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ . وَالتَّصْدِيقُ بِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ ; وَيُنَادِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصَوْتِ ; إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ . فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَانَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ . وَقَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ . حَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ كُتِبَ . فَلَا يُقَالُ لِتِلَاوَةِ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ : إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ وَلَا يُقَالُ : غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ . وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ : أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ قَدِيمَةٌ بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ : لَفْظُ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ : فَهَذَا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ السُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمِدَادَ يَكْتُبُ بِهِ كَلِمَاتِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْقُرْآنُ فِي الْمُصْحَفِ ; وَإِنَّمَا فِي الْمُصْحَفِ مِدَادٌ وَوَرَقٌ أَوْ حِكَايَةٌ وَعِبَارَةٌ . فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ . بَلْ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ . وَالْكَلَامُ فِي الْمُصْحَفِ - عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ - لَهُ خَاصَّةً يَمْتَازُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ زَادَ عَلَى السُّنَّةِ فَقَالَ : إنَّ أَلْفَاظَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ . كَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِحَرْفِ وَلَا بِصَوْتِ فَإِنَّهُ أَيْضًا مُبْتَدِعٌ مُنْكِرٌ لِلسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ زَادَ وَقَالَ : إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَهُوَ ضَالٌّ . كَمَنْ قَالَ : لَيْسَ فِي الْمَصَاحِفِ كَلَامُ اللَّهِ . وَأَمَّا مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْوَرَقَ وَالْجِلْدَ وَالْوَتَدَ وَقِطْعَةً مِنْ الْحَائِطِ : كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ وَلَا هُوَ كَلَامُهُ . هَذَا الْغُلُوُّ مِنْ جَانِبِ الْإِثْبَاتِ يُقَابِلُ التَّكْذِيبَ مِنْ جَانِبِ النَّفْيِ وَكِلَاهُمَا خَارِجٌ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَكَذَلِكَ إفْرَادُ الْكَلَامِ فِي النُّقْطَةِ وَالشَّكْلَةِ بِدْعَةٌ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَإِنَّهَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ بِقَلِيلِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمِدَادَ الَّذِي تُنَقَّطُ بِهِ الْحُرُوفُ وَيُشَكَّلُ بِهِ قَدِيمٌ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ وَمَنْ قَالَ : إنَّ إعْرَابَ حُرُوفِ الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ . بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ حُرُوفُهُ بِإِعْرَابِهَا كَمَا دَخَلَتْ مَعَانِيهِ وَيُقَالُ : مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ . فَإِنْ كَانَ الْمُصْحَفُ مَنْقُوطًا مَشْكُولًا أُطْلِقَ عَلَى مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ جَمِيعِهِ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُوطٍ وَلَا مَشْكُولٍ : كَالْمَصَاحِفِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ ; كَانَ أَيْضًا مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُلْقَى الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِ مُحْدَثٍ وَنِزَاعٍ لَفْظِيٍّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثُ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ .