تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرَ مِنْ تَنَوُّعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ ; بَيِّنٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ ; لَكِنْ نَقُولُ : دَلَالَةُ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ مَجَازٌ ; فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ; أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } " مَجَازٌ . وَقَوْلُهُ : " { الْإِيمَانُ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } " . . . إلَى آخِرِهِ ; حَقِيقَةٌ . وَهَذَا عُمْدَةُ الْمُرْجِئَةِ والجهمية والكرامية وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُدْخِلْ الْأَعْمَالَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ . وَنَحْنُ نُجِيبُ بِجَوَابَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " : كَلَامٌ عَامٌّ فِي لَفْظِ ( الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ) . " وَالثَّانِي " : مَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ . فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَجَازًا ; مَا هُوَ الْحَقِيقَةُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمَجَازِ ؟ هَلْ الْحَقِيقَةُ هُوَ الْمُطْلَقُ أَوْ الْمُقَيَّدُ أَوْ كِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ حَتَّى يُعْرَفَ أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ ؟ . فَيُقَالُ أَوَّلًا : تَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا إلَى " حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ " وَتَقْسِيمُ دَلَالَتِهَا أَوْ الْمَعَانِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا إنْ اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي الْمَدْلُولِ أَوْ فِي الدَّلَالَةِ ; فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْعِلْمِ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ بَلْ وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَنَحْوِهِمْ . وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِلَفْظِ " الْمَجَازِ " أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ . وَلَكِنْ لَمْ يَعْنِ بِالْمَجَازِ مَا هُوَ قَسِيمُ الْحَقِيقَةِ . وَإِنَّمَا عَنَى بِمَجَازِ الْآيَةِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْآيَةِ ; وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ - كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ - إنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِطُرُقِ مِنْهَا : نَصُّ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا : هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ فَقَدْ تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هَذَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ السَّلَفِ . وَهَذَا الشَّافِعِيُّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " لَمْ يُقَسِّمْ هَذَا التَّقْسِيمَ " وَلَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ " الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ " . وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " وَغَيْرِهِ ; وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الجهمية فِي قَوْلِهِ : ( إنَّا وَنَحْنُ ) وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ : هَذَا مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ يَقُولُ الرَّجُلُ : إنَّا سَنُعْطِيك . إنَّا سَنَفْعَلُ ; فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَجَازُ اللُّغَةِ . وَبِهَذَا احْتَجَّ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ فِي " الْقُرْآنِ " مَجَازًا كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ . وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ كَأَبِي الْحَسَنِ الخرزي . وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ . وَأَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَكَذَلِكَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ مُحَمَّدُ بْنُ خويز منداد وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنَعَ مِنْهُ داود بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البلوطي وَصَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا . وَحَكَى بَعْضُ النَّاسِ عَنْ أَحْمَد فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ . وَأَمَّا سَائِرُ الْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد : إنَّ فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا لَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ . إنَّمَا اُشْتُهِرَ فِي الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَظَهَرَتْ أَوَائِلُهُ فِي الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَمَا عَلِمْته مَوْجُودًا فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَوَاخِرِهَا وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ نَطَقُوا بِهَذَا التَّقْسِيمِ . قَالُوا : إنَّ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَد : مِنْ مَجَازِ اللُّغَةِ . أَيْ : مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ : نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا وَنَفْعَلُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلَمْ يُرِدْ أَحْمَد بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ . وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ كَأَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني . وَقَالَ الْمُنَازِعُونَ لَهُ : النِّزَاعُ مَعَهُ لَفْظِيٌّ فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ أَنَّ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ ; فَهَذَا هُوَ الْمَجَازُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ مَجَازًا . فَيَقُولُ مَنْ يَنْصُرُهُ : إنَّ الَّذِينَ قَسَّمُوا اللَّفْظَ : حَقِيقَةً وَمَجَازًا قَالُوا : " الْحَقِيقَةُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ . " وَالْمَجَازُ " هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ إذَا أُرِيدَ بِهِمَا الْبَهِيمَةُ أَوْ أُرِيدَ بِهِمَا الشُّجَاعُ وَالْبَلِيدُ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَالتَّحْدِيدُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَدْ وُضِعَ أَوَّلًا لِمَعْنَى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ ; وَلِهَذَا كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ التَّقْسِيمِ أَنَّ كُلَّ مَجَازٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَقِيقَةٍ وَلَيْسَ لِكُلِّ حَقِيقَةٍ مَجَازٌ ؟ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ وَقَالَ : اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ عُلِمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَرَبِيَّةَ وُضِعَتْ أَوَّلًا لِمَعَانٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُعْمِلَتْ فِيهَا ; فَيَكُونُ لَهَا وَضْعٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ . وَهَذَا إنَّمَا صَحَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ اللُّغَاتِ اصْطِلَاحِيَّةً فَيَدَّعِي أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْعُقَلَاءِ اجْتَمَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا هَذَا بِكَذَا وَهَذَا بِكَذَا وَيَجْعَلَ هَذَا عَامًّا فِي جَمِيعِ اللُّغَاتِ . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَهُ قَبْلَ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الجبائي ; فَإِنَّهُ وَأَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ كِلَاهُمَا قَرَأَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الجبائي لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَخَالَفَهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ وَفِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَفِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ . فَتَنَازَعَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ ; فَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ : هِيَ اصْطِلَاحِيَّةٌ وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ : هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ . ثُمَّ خَاضَ النَّاسُ بَعْدَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; فَقَالَ آخَرُونَ : بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ وَقَالَ فَرِيقٌ رَابِعٌ بِالْوَقْفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْعَرَبِ بَلْ وَلَا عَنْ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فَوَضَعُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا بَعْدَ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا عَنَوْهُ بِهَا مِنْ الْمَعَانِي فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ يَعْلَمُ وَضْعًا يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْطِلٌ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ . وَلَا يُقَالُ : نَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ ; فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ اصْطِلَاحٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِعْمَالُ . قِيلَ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ نَحْنُ نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يُلْهِمُ الْحَيَوَانَ مِنْ الْأَصْوَاتِ مَا بِهِ يَعْرِفُ بَعْضُهَا مُرَادَ بَعْضٍ وَقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ مَنْطِقًا وَقَوْلًا فِي قَوْلِ سُلَيْمَانَ : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } . وَفِي قَوْلِهِ : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } وَفِي قَوْلِهِ : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } . وَكَذَلِكَ الْآدَمِيُّونَ ; فَالْمَوْلُودُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ التَّمْيِيزُ سَمِعَ أَبَوَيْهِ أَوْ مَنْ يُرَبِّيهِ يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ وَيُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى فَصَارَ يَفْهَمُ أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْ : أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ هَذَا يَسْمَعُ لَفْظًا بَعْدَ لَفْظٍ حَتَّى يَعْرِفَ لُغَةَ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ اصْطَلَحُوا مَعَهُ عَلَى وَضْعٍ مُتَقَدِّمٍ ; بَلْ وَلَا أَوْقَفُوهُ عَلَى مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مُسَمَّى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيُوقَفُ عَلَيْهَا كَمَا يُتَرْجَمُ لِلرَّجُلِ اللُّغَةُ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا فَيُوقَفُ عَلَى مَعَانِي أَلْفَاظِهَا وَإِنْ بَاشَرَ أَهْلُهَا مُدَّةَ عِلْمِ ذَلِكَ بِدُونِ تَوْقِيفٍ مِنْ أَحَدِهِمْ . نَعَمْ قَدْ يَضَعُ النَّاسُ الِاسْمَ لِمَا يَحْدُثُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْرِفُهُ فَيُسَمِّيهِ كَمَا يُولَدُ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ فَيُسَمِّيهِ اسْمًا إمَّا مَنْقُولًا وَإِمَّا مُرْتَجَلًا وَقَدْ يَكُونُ الْمُسَمَّى وَاحِدًا لَمْ يَصْطَلِحْ مَعَ غَيْرِهِ وَقَدْ يَسْتَوُونَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ . وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْدُثُ لِلرَّجُلِ آلَةٌ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ يُصَنِّفُ كِتَابًا أَوْ يَبْنِي مَدِينَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيُسَمِّي ذَلِكَ بِاسْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمَعْرُوفَةِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ الْعَامَّةِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } . و { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } . وَقَالَ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْإِنْسَانَ الْمَنْطِقَ كَمَا يُلْهِمُ غَيْرَهُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا كَانَ قَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ تِلْكَ اللُّغَاتِ اتَّصَلَتْ إلَى أَوْلَادِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِهَا فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ بَنُوهُ وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ عَامَ الطُّوفَانِ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلُ السَّفِينَةِ انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ إلَّا أَوْلَادَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ . فَإِنَّ " اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ " كَالْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْأَنْوَاعِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَالْعَرَبُ أَنْفُسُهُمْ لِكُلِّ قَوْمٍ لُغَاتٌ لَا يَفْهَمُهَا غَيْرُهُمْ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُنْقَلَ هَذَا جَمِيعُهُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ وَأُولَئِكَ جَمِيعُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسْلٌ وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِنُوحِ وَجَمِيعُ النَّاسِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ : سَامُ وحام ويافث كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } . فَلَمْ يَجْعَلْ بَاقِيًا إلَّا ذُرِّيَّتَهُ وَكَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ أَوْلَادَهُ ثَلَاثَةٌ " . رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَذَا كُلِّهِ وَيَمْتَنِعُ نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُمْ ; فَإِنَّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ هَذِهِ اللُّغَةَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ وَإِذَا كَانَ النَّاقِلُ ثَلَاثَةً ; فَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَوْلَادَهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَلِمُوا أَوْلَادَهُمْ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاتَّصَلَتْ . وَنَحْنُ نَجِدُ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ يَتَكَلَّمُ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ بِلُغَةِ لَا تَعْرِفُهَا الْأُخْرَى وَالْأَبُ وَاحِدٌ لَا يُقَالُ : إنَّهُ عَلَّمَ أَحَدَ ابْنَيْهِ لُغَةً وَابْنَهُ الْآخَرَ لُغَةً ; فَإِنَّ الْأَبَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ابْنَانِ وَاللُّغَاتُ فِي أَوْلَادِهِ أَضْعَافُ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ عَادَةَ بَنِي آدَمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ لُغَتَهُمْ الَّتِي يُخَاطِبُونَهُمْ بِهَا أَوْ يُخَاطِبُهُمْ بِهَا غَيْرُهُمْ فَأَمَّا لُغَاتٌ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَا فَلَا يُعَلِّمُونَهَا أَوْلَادَهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُوجَدُ بَنُو آدَمَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْفَاظِ مَا سَمِعُوهَا قَطُّ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَالْعُلَمَاءُ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ عَنْ السَّلَفِ . ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ إنَّمَا عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَنْ يَعْقِلُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } . قَالُوا : وَهَذَا الضَّمِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ يُقَالُ فِيهَا : عَرَضَهَا . وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مَنْ يَعْقِلُ إلَّا الْمَلَائِكَةَ ; وَلَا كَانَ إبْلِيسُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا كَانَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ آدَمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ; فَرَآهُمْ فَرَأَى فِيهِمْ مَنْ يَبِصُ . فَقَالَ : يَا رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : ابْنُك داود } " . فَيَكُونُ قَدْ أَرَاهُ صُوَرَ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَأَسْمَاءَهُمْ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ لَا أَجْنَاسٍ . ( وَالثَّانِي ) : أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ ; قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : عَلَّمَهُ حَتَّى الفسوة والفسية وَالْقَصْعَةِ والقصيعة أَرَادَ أَسْمَاءَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَعْيَانِ مُكَبَّرَهَا وَمُصَغَّرَهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ : " { إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ } " . وَأَيْضًا قَوْلُهُ : " الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " لَفْظٌ عَامٌّ مُؤَكَّدٌ ; فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالدَّعْوَى . وَقَوْلُهُ : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ } لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ فَغَلَبَ مَنْ يَعْقِلُ . كَمَا قَالَ : { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } . قَالَ عِكْرِمَةُ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ دُونَ أَنْوَاعِهَا كَقَوْلِك : إنْسَانٌ وَجِنٌّ وَمَلَكٌ وَطَائِرٌ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ السَّائِبِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ : عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْهَوَامِّ وَالطَّيْرِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ لَيْسَتْ مُتَلَقَّاةً عَنْ آدَمَ ; أَنَّ أَكْثَرَ اللُّغَاتِ نَاقِصَةٌ عَنْ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءٌ خَاصَّةٌ لِلْأَوْلَادِ وَالْبُيُوتِ وَالْأَصْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُضَافُ إلَى الْحَيَوَانِ ; بَلْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي ذَلِكَ الْإِضَافَةَ . فَلَوْ كَانَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهَا الْجَمِيعَ لَعَلَّمَهَا مُتَنَاسِبَةً وَأَيْضًا فَكُلُّ أُمَّةٍ لَيْسَ لَهَا كِتَابٌ لَيْسَ فِي لُغَتِهَا أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي لُغَتِهَا اسْمُ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ عُرِفَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ ; فَوَضَعَتْ لَهُ الْأُمَمُ الْأَسْمَاءَ ; لِأَنَّ التَّعْبِيرَ يَتْبَعُ التَّصَوُّرَ وَأَمَّا الْأُسْبُوعُ فَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِالسَّمْعِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إلَّا بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ شُرِعَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ وَيَحْفَظُونَ بِهِ الْأُسْبُوعَ الْأَوَّلَ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ فِيهِ خَلْقَ هَذَا الْعَالَمِ ; فَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ والعِبْرانِيِّينَ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُمْ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ ; بِخِلَافِ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَتِهِمْ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ فَلَمْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ . فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ النَّوْعَ الْإِنْسَانِيَّ أَنْ يُعَبِّرَ عَمَّا يُرِيدُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ بِلَفْظِهِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَبُوهُمْ آدَمَ وَهُمْ عَلِمُوا كَمَا عَلِمَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ اللُّغَاتُ . وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى بالعبرانية وَإِلَى مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِيَّةِ ; وَالْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَا أَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ لَيْسَتْ الْأُخْرَى مَعَ أَنَّ الْعِبْرَانِيَّةَ مِنْ أَقْرَبِ اللُّغَاتِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ حَتَّى إنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ لُغَةِ بَعْضِ الْعَجَمِ إلَى بَعْضٍ . فَبِالْجُمْلَةِ نَحْنُ لَيْسَ غَرَضُنَا إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ ; بَلْ يَكْفِينَا أَنْ يُقَالَ : هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وُجُودُهُ بَلْ الْإِلْهَامُ كَافٍ فِي النُّطْقِ بِاللُّغَاتِ مِنْ غَيْرِ مُوَاضَعَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ; وَإِذَا سُمِّيَ هَذَا تَوْقِيفًا ; فَلْيُسَمَّ تَوْقِيفًا وَحِينَئِذٍ فَمَنْ ادَّعَى وَضْعًا مُتَقَدِّمًا عَلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ ; فَقَدْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ . وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ .