مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كَالْأَعْرَابِ وَكَالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مُسْلِمٌ وَكَسَائِرِ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ كَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ; وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَلِّقْ وَعْدَ الْجَنَّةِ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ مَعَ إيجَابِهِ الْإِسْلَامَ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ ; وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ وَمَعَ هَذَا فَمَا قَالَ : إنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَ : وَعَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فَهُوَ يُعَلِّقُهَا بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَقَوْلُهُ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَوْلُهُ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَوْلُهُ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } وَقَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } وَقَالَ : { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ . فَالْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ . فَلَوْ كَانَ مَنْ أَتَى مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ قَدْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا لَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ وَكَانَتْ الْجَنَّةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْجَنَّةُ لَمْ تُعَلَّقْ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ وَعْدُ الْجَنَّةِ مُعَلَّقًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَكَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ " التَّقْوَى " وَاسْمُ " الْبِرِّ " فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } وَبَاسِمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فَلَمَّا لَمْ يَجْرِ اسْمُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْمَجْرَى عُلِمَ أَنَّ مُسَمَّاهُ لَيْسَ مُلَازِمًا لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا يُلَازِمُهُ اسْمُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى طَاعَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ فَهَذَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ وَلَا يُخْلِدُهُ فِي النَّارِ ; لِأَنَّ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ . وَهَكَذَا سَائِرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إيمَانُهُمْ نَاقِصٌ وَإِذَا كَانَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ عُوقِبَ بِهَا إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ . لَكِنَّ مَعَهُمْ أَيْضًا مَا يُخَالِفُ الْإِيمَانَ مِنْ النِّفَاقِ فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مُنَافِقِينَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانُوا لِلْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَمَا يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَأَوْلَى لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي خِطَابِ اللَّهِ بِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي مَعَهُمْ إنْ اقْتَضَى شُمُولَ لَفْظِ الْخِطَابِ لَهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَلَيْسُوا بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَتَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْشَرُ بِهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمِلَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ يُضْرَبُ { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ صَالِحًا لِلَّهِ : فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُحْشَرُ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ عُذِّبَ وَأُخْرِجَ مِنْ النَّارِ ; إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِفَاقٌ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } فَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ هَذَا إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ بَلْ هُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَإِخْلَاصَهُ لِلَّهِ وَقَالَ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } فَيَكُونُ لَهُمْ حُكْمُهُمْ . وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَإِنَّهُ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَمَنْ كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَأَتَى بِالْكَبَائِرِ فَذَاكَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِيمَانُهُ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ ; وَيُخْرِجُهُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَوْ أَنَّهُ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَعْدُ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ . وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ وَيُسَمَّى مُسْلِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد . وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ; وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَفِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْكُفْرِ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ : ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ . وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ } . إنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ : مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ ; وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ اسْمِ الْإِيمَانِ مَعَ إثْبَاتِ اسْمِ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَمَعَهُ كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ بَلْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالُوا : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فَإِنَّ كِتَابَ " الْإِيمَانِ " الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ " الصَّحِيحَ " قَرَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَضَمَّنَهُ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ يَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ اسْتَسْلَمُوا ظَاهِرًا ; وَأَتْوَ بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِالصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالزَّكَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَجِّ الظَّاهِرِ وَالْجِهَادِ الظَّاهِرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ ( دَرْكٌ وَدَرَكٌ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ فَارِسٍ : الْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ . قَالَ الضَّحَّاكُ : الدَّرَجُ : إذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ . وَالدَّرْكُ : إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ فَصَارَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ } مِثْلَ قَوْلِهِ : { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ } وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَخْشَى الْأُمَّةِ لِلَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِحُدُودِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { اخْتَبَأَتْ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا } . وَقَوْلُهُ : { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ خَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْلِمِينَ ظَاهِرًا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ ; فَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يُسَمَّى مُسْلِمًا إذْ لَيْسَ هُوَ دُونَ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَإِذَا كَانَ نِفَاقُهُ أَغْلَبَ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ بَلْ اسْمُ الْمُنَافِقِ أَحَقُّ بِهِ فَإِنَّ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَسَوَادُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهِ هُوَ بِاسْمِ الْأَسْوَدِ أَحَقُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْأَبْيَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } وَأَمَّا إذَا كَانَ إيمَانُهُ أَغْلَبَ وَمَعَهُ نِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا حُجَّةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَحْمَد وَلَمْ أَرَهُ أَنَا فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَلَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ وَنَحْوَهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ : الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالنُّهْبَةَ الَّتِي يَرْفَعُ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ أَوْ مِثْلِهِنَّ أَوْ فَوْقِهِنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيه مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ الْكَبَائِرِ نُسَمِّيه مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : لِمَا نَفَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ نَفَيْته عَنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّسُولُ لَمْ يَنْفِهِ إلَّا عَنْ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَفْعَلُ الصَّغِيرَةَ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَنْهُ بِفِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْكَبَائِرِ لَكِنَّهُ نَاقِصُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ اجْتَنَبَ الصَّغَائِرَ فَمَا أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَلَكِنْ خَلَطَهُ بِسَيِّئَاتِ كَفَّرَتْ عَنْهُ بِغَيْرِهَا وَنَقَصَتْ بِذَلِكَ دَرَجَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَى عَنْهُمْ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَنْفِيه كَمَا نَفَاهُ الرَّسُولُ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ التَّصْدِيقُ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكُوا مِنْهُ مَا اسْتَحَقُّوا لِأَجْلِهِ سَلْبَ الْإِيمَانِ وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ وَإِيمَانٌ فَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ . وَطَوَائِفُ " أَهْلِ الْأَهْوَاءِ " مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ والجهمية وَالْمُرْجِئَةِ كراميهم وَغَيْرِ كراميهم يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطُوا فِيهِ وَخَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ ; بَلْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَقَالُوا : لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ وَمَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعِقَابَ وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ مَذْمُومًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا مَحْبُوبًا مَدْعُوًّا لَهُ مِنْ وَجْهٍ مَسْخُوطًا مَلْعُونًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ جَمِيعًا عِنْدَهُمْ بَلْ مَنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الْأُخْرَى عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ أَوْ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . وَحَكَى عَنْ غَالِيَةِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا : إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُقَابَلَةً لِأُولَئِكَ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ; وَسَائِرُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ والكرامية والكلابية وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ مُرْجِئِهِمْ وَغَيْرِ مُرْجِئِهِمْ فَيَقُولُونَ : إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَهُ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ بِاتِّفَاقِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمِهِ ; لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ . فَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ : جهميتهم وَغَيْرُ جهميتهم : هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُذِّبَ كَمَا أَنَّهُ نَاقِصُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُؤْمِنٍ ؟ هَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ . فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَعِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ . قِيلَ : هُوَ مُؤْمِنٌ وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ دُخُولِهِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَمَّا إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْآخِرَةِ . قِيلَ : لَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُعَذَّبَ فِي النَّارِ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ أَوْ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِينَ لَا يُسَمُّونَهُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ : اسْمُ الْفُسُوقِ يُنَافِي اسْمَ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَمَعَهُ إيمَانٌ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْمِيَةِ كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ كُفْرًا مَعَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ . كَقَوْلِهِ { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } وَقَوْلُهُ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " الصَّحِيحِ " مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَإِنَّهُ أُمِرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُنَادِيَ بِهِ فِي النَّاسِ فَقَدْ سَمَّى مَنْ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِلَا حَقٍّ كُفَّارًا ; وَسَمَّى هَذَا الْفِعْلَ كُفْرًا ; وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ . كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } فَقَدْ سَمَّاهُ أَخَاهُ حِينَ الْقَوْلِ ; وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاءَ بِهَا فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بَلْ فِيهِ كُفْرٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ } وَكَانَ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَ لَفْظُهُ : " لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ " فَإِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونٌ بِحَقِّ اللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ } وَقَوْلُهُ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } فَالْوَالِدُ أَصْلُهُ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ وَالْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ . كَمَا قَالَ : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } فَالْجَحْدُ لَهُمَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ جَحَدَ لِمَا مِنْهُ خَلَقَهُ رَبُّهُ فَقَدْ جَحَدَ خَلْقَ الرَّبِّ إيَّاهُ وَقَدْ كَانَ فِي لُغَةِ مَنْ قَبْلَنَا يُسَمَّى الرَّبُّ أَبًا فَكَانَ فِيهِ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا كَمَنَ جَحَدَ الْخَالِقَ بِالْكُلِّيَّةِ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحَادِيثِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ " أَصْلٍ جَامِعٍ " تَنْبَنِي عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ النُّصُوصِ وَرَدَ مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ النَّاسَ كَثُرَ نِزَاعُهُمْ فِي مَوَاضِعَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامُ لِكَثْرَةِ ذِكْرِهِمَا وَكَثْرَةِ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِمَا وَالِاسْمُ كُلَّمَا كَثُرَ التَّكَلُّمُ فِيهِ فَتُكُلِّمَ بِهِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِقَيْدِ وَمُقَيَّدٌ بِقَيْدِ آخَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . كَانَ هَذَا سَبَبًا لِاشْتِبَاهِ بَعْضِ مَعْنَاهُ ثُمَّ كُلَّمَا كَثُرَ سَمَاعُهُ كَثُرَ مَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضَ مَوَارِدِهِ وَلَا يُسْمَعُ بَعْضُهُ وَيَكُونُ مَا سَمِعَهُ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ أَوْجَبَهُ اخْتِصَاصُهُ بِمَعْنَى فَيَظُنُّ مَعْنَاهُ فِي سَائِرِ مَوَارِدِهِ كَذَلِكَ ; فَمَنْ اتَّبَعَ عِلْمَهُ حَتَّى عَرَفَ مَوَاقِعَ الِاسْتِعْمَالِ عَامَّةً وَعَلِمَ مَأْخَذَ الشَّبَهِ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَعَلِمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا بَيَانَ أَتَمَّ مِنْ بَيَانِهِ ; وَأَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دِينِهِمْ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ .