مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَحَدَثَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ قَوْلُ " الكرامية " ; إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلُ اللِّسَانِ دُونَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ وَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصالحي : إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ لَكِنْ لَهُ لَوَازِمُ فَإِذَا ذَهَبَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَإِنَّ كُلَّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ظَاهِرٍ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَلَيْسَ الْكُفْرُ إلَّا تِلْكَ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ وَلَيْسَ الْإِيمَانُ إلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةِ وَهَذَا أَشْهَرُ قَوْلَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَمْثَالِهِمَا وَلِهَذَا عَدَّهُمْ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ مِنْ " الْمُرْجِئَةِ " وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْهُ كَقَوْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ . وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَهُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُوَافَاةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُ يَعُودُ إلَى ذَلِكَ ; لَا إلَى الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ وَالْحَالِ . وَقَدْ مَنَعَ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي " كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " . وَقَالَ إنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - كَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَأَمْثَالِهِ - إلَى نَظِيرِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْأَصْلِ وَقَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ وَأَنَّ الْقَوْلَ الظَّاهِرَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ; لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِمْ وَأَصْلِ نِزَاعِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ والجهمية وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا إذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ وَإِذَا ثَبَتَ بَعْضُهُ ثَبَتَ جَمِيعُهُ فَلَمْ يَقُولُوا بِذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ } . ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ " الطَّاعَاتُ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ فَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُهَا ذَهَبَ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَذَهَبَ سَائِرُهُ فَحَكَمُوا بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ . وَقَالَتْ " الْمُرْجِئَةُ والجهمية " : لَيْسَ الْإِيمَانُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا لَا يَتَبَعَّضُ أَمَّا مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ كَقَوْلِ الجهمية أَوْ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ كَقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ قَالُوا : لِأَنَّا إذَا أَدْخَلْنَا فِيهِ الْأَعْمَالَ صَارَتْ جُزْءًا مِنْهُ فَإِذَا ذَهَبَتْ ذَهَبَ بَعْضُهُ فَيَلْزَمُ إخْرَاجُ ذِي الْكَبِيرَةِ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ لَهُ لَوَازِمُ وَدَلَائِلُ فَيُسْتَدَلُّ بِعَدَمِهَا عَلَى عَدَمِهِ . وَكَانَ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَفِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مُتَنَاقِضِينَ حَيْثُ قَالُوا : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ لَا يَزُولُ بِزَوَالِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ حَتَّى إنَّ ابْنَ الْخَطِيبِ وَأَمْثَالَهُ جَعَلُوا الشَّافِعِيَّ مُتَنَاقِضًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَلَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ " الْأُمِّ " إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَمَّا صَنَّفَ ابْنُ الْخَطِيبِ تَصْنِيفًا فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِ جَهْمٍ والصالحي اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَرَآهُ مُتَنَاقِضًا . وَجِمَاعُ شُبْهَتِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُرَكَّبَةَ تَزُولُ بِزَوَالِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا كَالْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ بَعْضُهَا لَمْ تَبْقَ عَشَرَةً ; وَكَذَلِكَ الْأَجْسَامُ الْمُرَكَّبَةُ كالسكنجبين إذَا زَالَ أَحَدُ جُزْأَيْهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ سكنجبينا . قَالُوا فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ مُرَكَّبًا مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ لَزِمَ زَوَالُهُ بِزَوَالِ بَعْضِهَا . وَهَذَا قَوْل الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ كَافِرًا بِمَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ فَيَقُومُ بِهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ وَادَّعَوْا أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - امْتَنَعَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَقُولَ بِنَقْصِهِ ; كَأَنَّهُ ظَنَّ : إذَا قَالَ ذَلِكَ يَلْزَمُ ذَهَابَهُ كُلَّهُ ; بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ . ثُمَّ إنَّ " هَذِهِ الشُّبْهَةَ " هِيَ شُبْهَةُ مَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ لِأَنَّ الطَّاعَةَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْصِيَةَ جُزْءٌ مِنْ الْكُفْرِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِيهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ وَقَالُوا مَا ثَمَّ إلَّا مُؤْمِنٌ مَحْضٌ أَوْ كَافِرٌ مَحْضٌ ثُمَّ نَقَلُوا حُكْمَ الْوَاحِدِ مِنْ الْأَشْخَاصِ إلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا : لَا يَكُونُ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْهٍ مَكْرُوهًا مِنْ وَجْهٍ وَغَلَا فِيهِ أَبُو هَاشِمٍ فَنَقَلَهُ إلَى الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ السُّجُودِ أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ طَاعَةً وَبَعْضُهَا مَعْصِيَةً ; لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُوصَفُ بِوَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بَلْ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَهُوَ قَصْدُ السَّاجِدِ دُونَ عَمَلِهِ الظَّاهِرِ . وَاشْتَدَّ نَكِيرُ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَذَكَرُوا مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ وَجَحْدِهِ لِلضَّرُورِيَّاتِ شَرْعًا وَعَقْلًا مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ فَسَادُهُ . وَهَؤُلَاءِ مُنْتَهَى نَظَرِهِمْ أَنْ يَرَوْا حَقِيقَةً مُطْلَقَةً مُجَرَّدَةً تَقُومُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُونَ : الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالسُّجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ; وَلَوْ اهْتَدَوْا لَعَلِمُوا أَنَّ الْأُمُورَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ مُتَمَيِّزَةٌ بِخَصَائِصِهَا وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُجَرَّدَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَأَنَّ النَّاسَ إذَا تَكَلَّمُوا فِي التَّفَاضُلِ وَالِاخْتِلَافِ فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي تَفَاضُلِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا فِي تَفَاضُلِ أَمْرٍ مُطْلَقٍ مُجَرَّدٍ فِي الذِّهْنِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّوَادَ مُخْتَلِفٌ فَبَعْضُهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الْبَيَاضُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَلْوَانِ . وَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا السَّوَادَ الْمُجَرَّدَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ فَهَذَا لَا يَقْبَلُ الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَاضُلَ لَكِنَّ هَذَا هُوَ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا تَفَاضُلَ الْعَقْلِ أَوْ الْإِيجَابِ أَوْ التَّحْرِيمِ وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَمْثَالِهِمَا لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ البربهاري وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ وَقَعَ نَظِيرُ هَذَا لِأَهْلِ الْمَنْطِقِ وَالْفَلْسَفَةِ وَلِمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالِاتِّحَادِ فِي تَوْحِيدِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَوَحْدَتِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ الْأَمْرُ إلَى مَا يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .