مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى : " مُؤْمِنٍ " و " مُنَافِقٍ " كَافِرٍ فِي الْبَاطِنِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَإِلَى كَافِرٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَلَمَّا كَثُرَتْ الْأَعَاجِمُ فِي الْمُسْلِمِينَ تَكَلَّمُوا بِلَفْظِ " الزِّنْدِيقِ " وَشَاعَتْ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الزِّنْدِيقِ : هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ؟ فِي الظَّاهِرِ : إذَا عُرِفَ بِالزَّنْدَقَةِ وَدُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُقْبَلُ . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : قَبُولُهَا كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ " الزِّنْدِيقَ " فِي عُرْفِ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنَ غَيْرَهُ سَوَاءٌ أَبْطَنَ دِينًا مِنْ الْأَدْيَانِ : كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ غَيْرِهِمْ . أَوْ كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا لِلصَّانِعِ وَالْمَعَادِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : " الزِّنْدِيقُ " هُوَ الْجَاحِدُ الْمُعَطِّلُ . وَهَذَا يُسَمَّى الزِّنْدِيقَ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْعَامَّةِ وَنَقَلَةِ مَقَالَاتِ النَّاسِ ; وَلَكِنَّ الزِّنْدِيقَ الَّذِي تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ : هُوَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ هُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَغَيْرِ الْكَافِرِ وَالْمُرْتَدِّ وَغَيْرِ الْمُرْتَدِّ وَمَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ أَوْ أَسَرَّهُ . وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْكُفْرِ كَمَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } وَتَارِكُ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ أَوْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ كَمَا أَخْبَرَ بِزِيَادَةِ عَذَابِ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } . فَهَذَا " أَصْلٌ " يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الْبَابِ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي " مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ " - لِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ - لَمْ يَلْحَظُوا هَذَا الْبَابَ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ ; بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ : قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا مُخْطِئًا جَاهِلًا ضَالًّا عَنْ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ . وَهُنَا " أَصْلٌ آخَرُ " وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّة وَصْفُ أَقْوَامٍ بِالْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ . فَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاحِدٌ . وَعَارَضُوا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ الْآيَةَ الْأُولَى لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مَنْ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ كانت فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَوْجُودِينَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْمُخْرَجِينَ الَّذِينَ نَجَوْا ; بَلْ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ وَكَانَتْ فِي الظَّاهِرِ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى دِينِهِ وَفِي الْبَاطِنِ مَعَ قَوْمِهَا عَلَى دِينِهِمْ خَائِنَةً لِزَوْجِهَا تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أَضْيَافِهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } . وَكَانَتْ خِيَانَتُهُمَا لَهُمَا فِي الدِّينِ لَا فِي الْفِرَاشِ . فَإِنَّهُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ; إذْ " نِكَاحُ الْكَافِرَةِ " قَدْ يَجُوزُ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ وَيَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا نِكَاحُ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ وَهُنَّ الْكِتَابِيَّاتُ وَأَمَّا " نِكَاحُ الْبَغِيِّ " فَهُوَ : دِيَاثَةٌ . وَقَدْ صَانَ اللَّهُ النَّبِيَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَيُّوثًا . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْبَغِيِّ حَتَّى تَتُوبَ .