تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَأَمَّا " مَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ " فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَقَامَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : فِي الْقِيَاسِ الْمُطْلَقِ الَّذِي جَعَلُوهُ مِيزَانَ الْعُلُومِ وَحَرَّرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ . و ( الثَّانِي : فِي جِنْسِ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْعُلُومِ . أَمَّا ( الْأَوَّلُ : فَنَقُولُ : لَا نِزَاعَ أَنَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مَعْلُومَتَيْنِ وَأُلِّفَتَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَدِلِ : أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالنَّتِيجَةِ . وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " ; لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى مُنَازِعٍ يُنَازِعُهُ بَلْ التَّرْكِيبُ فِي هَذَا كَمَا قَالَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُسْكِرَاتِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْخَمْرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ . فَهُوَ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْخَمْرِ وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { سُئِلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُسَمَّى الْمَزْرُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُسَمَّى الْبِتْعُ . وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " . فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ - وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ - أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ . ثُمَّ جَاءَ بِمَا كَانُوا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَنَّ " { كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " حَتَّى يُثَبِّتَ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " لَتَأَوَّلَهُ مُتَأَوِّلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ كَمَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ . وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد : قَوْلُهُ " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " أَبْلَغُ . فَإِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ خَمْرًا . وَلَوْ قَالَ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " فَقَطْ لَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُشْبِهُ الْخَمْرَ فِي التَّحْرِيمِ فَلَمَّا زَادَ " { وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ دُخُولَهُ فِي اسْمِ الْخَمْرِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ . وَالْغَرَضُ هُنَا : أَنَّ صُورَةَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورَةَ فِطْرِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمٍ . بَلْ هِيَ عِنْدَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْحِسَابِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُطَوِّلُونَ الْعِبَارَاتِ وَيُغَرِّبُونَهَا . وَكَذَلِكَ انْقِسَامُ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي تُسَمَّى " الْقَضِيَّةَ " - وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ - إلَى خَاصٍّ وَعَامٍّ وَمَنْفِيٍّ وَمُثْبَتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْقَضِيَّةَ الصَّادِقَةَ يَصْدُقُ عَكْسُهَا وَعَكْسُ نَقِيضِهَا وَيَكْذِبُ نَقِيضُهَا . وَأَنَّ جُمْلَتَهَا تَخْتَلِفُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ تَقْسِيمُ الْقِيَاسِ إلَى الْحَمْلِيِّ الْإِفْرَادِيِّ ; والاستثنائي التلازمي والتعاندي وَغَيْرِ ذَلِكَ : غَالِبُهُ - وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا - فَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ . وَالْحَقُّ الَّذِي هُوَ فِيهِ : فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ وَتَكْثِيرِهِ بِلَا فَائِدَةٍ ; وَمِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ وَالْعِيِّ فِي الْبَيَانِ ; وَمِنْ الْعُدُولِ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْقَرِيبِ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَدِيرِ الْبَعِيدِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَيَانِهِ . فَحَقُّهُ النَّافِعُ فِطْرِيٌّ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ; وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ إلَّا مَعْرِفَةُ اصْطِلَاحِهِمْ وَطَرِيقِهِمْ أَوْ خَطَئِهِمْ . وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ ذِي مَقَالَةٍ مِنْ الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةِ . فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَعْرِفَةِ لُغَتِهِ وَضَلَالِهِ . فَاحْتِيجَ إلَيْهِ لِبَيَانِ ضَلَالِهِ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْمُوقِنُونَ حَالَهُ . وَيَسْتَبِينُ لَهُمْ مَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ حُكْمِهِ جَزَاءً وَأَمْرًا ; وَأَنَّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِيمَا يُذَمُّ بِهِ مَنْ تَكَلَّفَ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُفِيدُ ; وَكَثْرَةِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : ذِكْرُ وُجُوهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ عِلْمًا إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ . فَلَا بُدَّ مِنْ كُلِّيَّةٍ جَامِعَةٍ ثَابِتَةٍ فِي كُلِّ قِيَاسٍ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ أَيْضًا . وَلِهَذَا قَالُوا : لَا قِيَاسَ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعُلُومُ الْكُلِّيَّةُ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةُ هِيَ أُصُولَ الْأَقْيِسَةِ وَالْأَدِلَّةَ وَقَوَاعِدَهَا الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا وَتَحْتَاجُ إلَيْهَا . ثُمَّ قَالُوا : إنَّ مَبَادِئَ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ هِيَ الْعُلُومُ الْيَقِينِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْحِسِّيَّاتُ الْبَاطِنَةُ وَالظَّاهِرَةُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَالْبَدِيهِيَّاتُ والمتواترات وَالْمُجَرَّبَاتُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ : الْحَدْسِيَّاتُ . وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ ; إذْ الْحِسُّ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ لَا يُدْرِكُ إلَّا أُمُورًا مُعَيَّنَةً لَا تَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ أَدْرَكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ بِالْحِسِّ فَهِيَ تَبَعٌ لِلْحِسِّيَّاتِ . وَكَذَلِكَ التَّجْرِبَةُ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ مَحْسُوسَةٍ . وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ عَلَى النَّظَائِرِ بِالتَّشْبِيهِ وَهُوَ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَالْحَدْسِيَّاتِ - عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهَا مِنْهُمْ - مِنْ جِنْسِ التَّجْرِيبِيَّاتِ . لَكِنَّ الْفَرْقَ : أَنَّ التَّجْرِبَةَ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمُجَرِّبِ كَالْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْحَدْسُ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ فِعْلٍ كَاخْتِلَافِ أَشْكَالِ الْقَمَرِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مُقَابَلَتِهِ لِلشَّمْسِ . وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَجْرِبَةٌ عِلْمِيَّةٌ بِلَا عَمَلٍ فَالْمُسْتَفَادُ بِهِ أَيْضًا أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ جُزْئِيَّةٌ لَا تَصِيرُ عَامَّةً إلَّا بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَأَمَّا الْبَدِيهِيَّاتُ - وَهِيَ الْعُلُومُ الْأَوَّلِيَّةُ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي النُّفُوسِ ابْتِدَاءً بِلَا وَاسِطَةٍ مِثْلُ الْحِسَابِ وَهِيَ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ - فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مِثْلُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ وَالْمِقْدَارِ الْمُطْلَقِ وَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُسَاوِيَةَ لِشَيْءِ وَاحِدٍ هِيَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي أَنْفُسِهَا . فَإِنَّك إذَا حَكَمْت عَلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْحِسِّ مِثْلُ الْعَقْلِ . فَإِنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا هُوَ عَقْلُ مَا عَلِمْته بِالْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ بِعَقْلِ الْمَعَانِي الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ . فَأَمَّا أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ عَقْلُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَفْرَادُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ حِسٍّ فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ . وَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إلَى نَفْسِهِ وَجَدَ أَنَّهُ لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الْحِسِّ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ لِكُلِّيَّاتِ مُقَدَّرَةٍ فِي نَفْسِهِ مِثْلُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْمُسْتَقِيمِ وَالْمُنْحَنَى وَالْمُثَلَّثِ وَالْمُرَبَّعِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْرِضُهُ هُوَ وَيُقَدِّرُهُ . فَأَمَّا الْعِلْمُ بِمُطَابَقَةِ ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ وَالْعِلْمُ بِالْحَقَائِقِ الْخَارِجِيَّةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْحِسِّ الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ . فَإِذَا اجْتَمَعَ الْحِسُّ وَالْعَقْلُ - كَاجْتِمَاعِ الْبَصَرِ وَالْعَقْلِ - أَمْكَنَ أَنْ يُدْرِكَ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ الْمَعْنِيَّةَ وَيَعْقِلَ حُكْمَهَا الْعَامَّ الَّذِي يَنْدَرِجُ فِيهِ أَمْثَالُهَا [ لَا ] أَضْدَادُهَا وَيُعْلَمُ الْجَمْعُ وَالْفَرْقُ . وَهَذَا هُوَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَقِيَاسُهُ . وَإِذَا انْفَرَدَ الْإِحْسَاسُ الْبَاطِنُ أَوْ الظَّاهِرُ أَدْرَكَ وُجُودَ الْمَوْجُودِ الْمُعَيَّنِ . وَإِذَا انْفَرَدَ الْمَعْقُولُ الْمُجَرَّدُ عَلِمَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُقَدَّرَةَ فِيهِ الَّتِي قَدْ يَكُونُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُ أَعْيَانِهَا وَعَدَمُ وُجُودِ أَعْيَانِهَا إلَّا بِإِحْسَاسِ بَاطِنٍ أَوْ ظَاهِرٍ . فَإِنَّك إذَا قُلْت : مَوْجُودٌ [ أَنَّ ] الْمِائَةَ عُشْرُ الْأَلْفِ لَمْ تَحْكُمْ عَلَى شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ ; بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ مَا يَعُدُّ بِالْمِائَةِ وَالْأَلْفِ لَكُنْت عَالِمًا بِأَنَّ الْمِائَةَ الْمُقَدَّرَةَ فِي عَقْلِك عُشْرُ الْأَلْفِ وَلَكِنْ إذَا أَحْسَسْت بِالرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَحْسَسْت بِحِسِّك أَوْ بِخَبَرِ مَنْ أَحَسَّ أَنَّ هُنَاكَ مِائَةَ رَجُلٍ أَوْ دِرْهَمٍ وَهُنَاكَ أَلْفٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ : حَكَمْت عَلَى أَحَدِ الْمَعْدُودَيْنِ بِأَنَّهُ عُشْرُ الْآخَرِ . فَأَمَّا الْمَعْدُودَاتُ فَلَا تُدْرَكُ إلَّا بِالْحِسِّ . وَالْعَدَدُ الْمُجَرَّدُ يُعْقَلُ بِالْقَلْبِ وَبِعَقْلِ الْقَلْبِ وَالْحِسِّ يُعْلَمُ الْعَدَدُ وَالْمَعْدُودُ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ الْمَقَادِيرُ الْهَنْدَسِيَّةُ هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَالْعُلُومُ الْأَوَّلِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَيْسَتْ إلَّا فِي الْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ كَالْعَدَدِ وَالْمِقْدَارِ لَا فِي الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ . فَإِذَا كَانَتْ مَوَادُّ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ لَا يُدْرَكُ بِعَامَّتِهَا إلَّا أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ لَيْسَتْ كُلِّيَّةً وَهِيَ الْحِسُّ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَالتَّوَاتُرُ وَالتَّجْرِبَةُ وَالْحَدْسُ وَاَلَّذِي يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةَ الْأَوَّلِيَّةَ إنَّمَا يُدْرِكُ أُمُورًا مُقَدَّرَةً ذِهْنِيَّةً لَمْ يَكُنْ فِي مَبَادِئِ الْبُرْهَانِ وَمُقَدِّمَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَالْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ . فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ وَمَادَّتِهِ حُصُولُ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ . وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . وَبِتَحْرِيرِهِ وَجَوْدَةِ تَصَوُّرِهِ تَنْفَتِحُ عُلُومٌ عَظِيمَةٌ وَمَعَارِفُ . وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَلَيْهِمْ اللَّبْسُ . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ عَظَائِمِ الْعُلُومِ الَّتِي يَظْهَرُ لَك بِهِ مَا يَجِلُّ عَنْ الْوَصْفِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقَةِ الْفِطْرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَبَيْنَ الطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك بِإِجْمَاعِهِمْ وَبِالْعَقْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ لَا يُفِيدُ إلَّا بِوَاسِطَةِ قَضِيَّةٍ وَتَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْقَضَايَا الَّتِي [ هِيَ ] عِنْدَهُمْ مَوَادُّ الْبُرْهَانِ وَأُصُولُهُ لَيْسَ فِيهَا قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَلَيْسَ فِيهَا مَا تُعْلَمُ بِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ إلَّا الْعَقْلُ الْمُجَرَّدُ الَّذِي يَعْقِلُ الْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أُصُولِ بُرْهَانِهِمْ عِلْمٌ بِقَضِيَّةِ عَامَّةٍ لِلْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عِلْمٌ . وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مَا يُمْكِنُ النِّزَاعُ فِيهِ إلَّا الْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّةُ فَإِنَّ فِيهَا عُمُومًا وَقَدْ يَظُنُّ أَنَّ بِهِ تَعَلُّمَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ فَيَفْرِضُ أَنَّهَا تُفِيدُ الْعُلُومَ الْكُلِّيَّةَ . لَكِنَّ بَقِيَّةَ الْمَبَادِئِ لَيْسَ فِيهَا عِلْمٌ كُلِّيٌّ . فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجْعَلَ مُقَدِّمَةَ الْبُرْهَانِ إلَّا الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْبَدِيهِيَّةَ الْمَحْضَةَ . إذْ هِيَ الْكُلِّيَّةُ . وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْقَضَايَا فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِ ؟ إلَّا أَنْ يُقَالَ : تُعْلَمُ بِهَا أُمُورٌ جُزْئِيَّةٌ وَبِالْعَقْلِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ فَبِمَجْمُوعِهِمَا يَتِمُّ الْبُرْهَانُ كَمَا يُعْلَمُ بِالْحِسِّ أَنَّ مَعَ هَذَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمَعَ هَذَا أَلْفَانِ وَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ فَيُعْلَمُ أَنَّ مَالَ هَذَا أَكْثَرُ . فَيُقَالُ : هَذَا صَحِيحٌ ; لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ قَضِيَّةً جُزْئِيَّةً مُعَيَّنَةً . وَهُوَ كَوْنُ مَالِ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ مَالِ هَذَا . وَالْأُمُورُ الْجُزْئِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لَا تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إلَى قِيَاسٍ . بَلْ قَدْ تُعْلَمُ بِلَا قِيَاسٍ وَتُعْلَمُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَتُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ . فَإِنَّك تَعْلَمُ بِالْحِسِّ أَنَّ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَتَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ نَعْتِهِ كَيْت وَكَيْت فَتَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ مِثْلُهُ وَتَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ . وَكَذَلِكَ قَدْ يُعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا أَكْبَرُ مِنْ عَمْرٍو وَعَمْرًا أَكْبَرُ مِنْ خَالِدٍ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي تُعْلَمُ بِدُونِ قِيَاسِ الشُّمُولِ الَّذِي اشْتَرَطُوا فِيهِ مَا اشْتَرَطُوا . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ الْمَنْطِقِيَّ الَّذِي وَضَعُوهُ وَحَدَّدُوهُ لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي الْخَارِجِ . فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ : " إنَّهُ مِيزَانُ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ " وَلَكِنْ يُعْلَمُ بِهِ أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ شَخْصِيَّةٌ جُزْئِيَّةٌ وَتِلْكَ تُعْلَمُ بِغَيْرِهِ أَجْوَدَ مِمَّا تُعْلَمُ بِهِ .