تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَنَقُولُ : الْكَلَامُ فِي " أَرْبَعِ مَقَامَاتٍ " : مَقَامَيْنِ سَالِبَيْنِ وَمَقَامَيْنِ مُوجَبَيْنِ . فَالْأَوَّلَانِ ( أَحَدُهُمَا فِي قَوْلِهِمْ إنَّ التَّصَوُّرَ الْمَطْلُوبَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ . و ( الثَّانِي أَنَّ التَّصْدِيقَ الْمَطْلُوبَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْقِيَاسِ . وَالْآخَرَانِ فِي أَنَّ الْحَدَّ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصَوُّرَاتِ وَأَنَّ الْقِيَاسَ أَوْ الْبُرْهَانَ الْمَوْصُوفَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصْدِيقَاتِ . الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِمْ : " إنَّ التَّصَوُّرَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْحَدِّ " وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : ( الْأَوَّلُ : لَا رَيْبَ أَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَالْمُثْبِتِ وَالْقَضِيَّةُ سَلْبِيَّةً أَوْ إيجَابِيَّةً إذَا لَمْ تَكُنْ بَدِيهِيَّةً لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ وَأَمَّا السَّلْبُ بِلَا عِلْمٍ ; فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ فَقَوْلُهُمْ لَا تَحْصُلُ التَّصَوُّرَاتُ إلَّا بِالْحَدِّ قَضِيَّةٌ سَالِبَةٌ وَلَيْسَتْ بَدِيهِيَّةً فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ ذَلِكَ ؟ وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَا أَسَّسُوهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ أَسَاسًا لِمِيزَانِ الْعِلْمِ وَلِمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ عَنْ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ ؟ ( الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : الْحَدُّ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْمَحْدُودِ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ هُنَا . وَيُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الْمَحْدُودِ وَهُوَ مُرَادُهُمْ هُنَا . وَهُوَ تَفْصِيلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْإِجْمَالِ . فَيُقَالُ إذَا كَانَ الْحَدُّ قَوْلَ الْحَادِّ فَالْحَادُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَرَّفَ الْمَحْدُودَ بِحَدِّ أَوْ بِغَيْرِ حَدٍّ ; فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْكَلَامُ فِي الْحَدِّ الثَّانِي كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلدَّوْرِ أَوْ التَّسَلْسُلِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ بَطَلَ سَلْبُهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَدِّ . ( الثَّالِثُ : أَنَّ الْأُمَمَ جَمِيعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُلُومِ وَالْمَقَالَاتِ وَأَهْلِ الْأَعْمَالِ وَالصِّنَاعَاتِ يَعْرِفُونَ الْأُمُورَ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَتِهَا وَيُحَقِّقُونَ مَا يُعَانُونَهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّمٍ بِحَدِّ وَلَا نَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلُومِ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْحُدُودِ : لَا أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَلَا النَّحْوِ وَلَا الطِّبِّ وَلَا الْحِسَابِ وَلَا أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ مَعَ أَنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ مُفْرَدَاتِ عِلْمِهِمْ فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ هَذِهِ الْحُدُودِ . ( الرَّابِعُ : إلَى السَّاعَةِ لَا يُعْلَمُ لِلنَّاسِ حَدٌّ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بَلْ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ الْإِنْسَانُ وَحَدُّهُ بِالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضَاتُ الْمَشْهُورَةُ . وَكَذَا حَدُّ الشَّمْسِ وَأَمْثَالُهُ حَتَّى إنَّ النُّحَاةَ لَمَّا دَخَلَ مُتَأَخِّرُوهُمْ فِي الْحُدُودِ ذَكَرُوا لِلِاسْمِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ حَدًّا وَكُلُّهَا مُعْتَرِضَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ . وَالْأُصُولِيُّونَ ذَكَرُوا لِلْقِيَاسِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ حَدًّا وَكُلُّهَا أَيْضًا مُعْتَرِضَةٌ . وَعَامَّةُ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ وَالنُّحَاةِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ مُعْتَرِضَةٌ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إلَّا الْقَلِيلُ فَلَوْ كَانَ تَصَوُّرُ الْأَشْيَاءِ مَوْقُوفًا عَلَى الْحُدُودِ وَلَمْ يَكُنْ إلَى السَّاعَةِ قَدْ تَصَوَّرَ النَّاسُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالتَّصْدِيقُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّصَوُّرِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَصَوُّرٌ لَمْ يَحْصُلْ تَصْدِيقٌ فَلَا يَكُونُ عِنْدَ بَنِي آدَمَ عِلْمٌ مِنْ عَامَّةِ عُلُومِهِمْ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ السَّفْسَطَةِ . ( الْخَامِسُ : أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ إنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَهُمْ بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنْ الذَّاتِيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُمَيِّزَةِ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَهَذَا الْحَدُّ إمَّا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ كَمَا قَدْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ ; وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ قَدْ تَصَوَّرَ حَقِيقَةً مِنْ الْحَقَائِقِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا وَقَدْ تُصُوِّرَتْ الْحَقَائِقُ فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ الْحَدِّ . ( السَّادِسُ : أَنَّ الْحُدُودَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا تَكُونُ لِلْحَقَائِقِ الْمُرَكَّبَةِ وَهِيَ الْأَنْوَاعُ الَّتِي لَهَا جِنْسٌ وَفَصْلٌ فَأَمَّا مَا لَا تَرْكِيبَ فِيهِ وَهُوَ مَا لَا يَدْخُلُ مَعَ غَيْرِهِ تَحْتَ جِنْسٍ كَمَا مَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِالْعَقْلِ فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَقَدْ عَرَّفُوهُ وَهُوَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ الْمَطْلُوبَةِ عِنْدَهُمْ فَعُلِمَ اسْتِغْنَاءُ التَّصَوُّرِ عَنْ الْحَدِّ بَلْ إذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ هَذَا بِلَا حَدٍّ فَمَعْرِفَةُ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ أَوْلَى ; لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْجِنْسِ وَأَشْخَاصُهَا مَشْهُورَةٌ . وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّصَوُّرِ التَّامِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ . بَلْ يَكْفِي فِيهِ أَدْنَى تَصَوُّرٍ وَلَوْ بِالْخَاصَّةِ وَتَصَوُّرُ الْعَقْلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ جِنْسَ التَّصَوُّرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ . ( السَّابِعُ : أَنَّ سَامِعَ الْحَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا قَبْلَ ذَلِكَ بِمُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِهِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى مَعَانِيهَا الْمُفْرَدَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ فَهْمُ الْكَلَامِ وَالْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى وَمَوْضُوعٌ لَهُ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْمَعْنَى . وَإِنْ كَانَ مُتَصَوَّرًا لِمُسَمَّى اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا تَصَوُّرُهُ بِسَمَاعِهِ . ( الثَّامِنُ : إذَا كَانَ الْحَدُّ قَوْلُ الْحَادِّ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَصَوُّرَ الْمَعَانِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَتَصَوَّرُ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ بِدُونِ لَفْظٍ وَالْمُسْتَمِعَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُخَاطَبٍ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَا تُتَصَوَّرُ الْمُفْرَدَاتُ إلَّا بِالْحَدِّ . ( التَّاسِعُ : أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْمُتَصَوَّرَةَ إمَّا أَنْ يَتَصَوَّرَهَا الْإِنْسَانُ بِحَوَاسِّهِ الظَّاهِرَةِ كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَالْأَجْسَامِ الَّتِي تَحْمِلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوْ الْبَاطِنَةِ كَالْجُوعِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَكُلُّهَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْحَدِّ . ( الْعَاشِرُ : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْمُعْتَرِضِ : أَنْ يَطْعَنَ عَلَى الْحَدِّ بِالنَّقْضِ فِي الطَّرْدِ أَوْ فِي الْمَنْعِ وَبِالْمُعَارَضَةِ بِحَدِّ آخَرَ فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُ لِلْحَدِّ يُبْطِلُهُ بِالنَّقْضِ تَارَةً وَبِالْمُعَارَضَةِ أُخْرَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمَحْدُودِ عُلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ الْمَحْدُودِ بِدُونِ الْحَدِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . ( الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ مَا يَكُونُ بَدِيهِيًّا لَا يَحْتَاجُ إلَى حَدٍّ وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ كَوْنُ الْعِلْمِ بَدِيهِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ النَّظَرِيُّ عِنْدَ رَجُلٍ بَدِيهِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ لِوُصُولِهِ إلَيْهِ بِأَسْبَابِهِ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوْ قَرَائِنَ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْإِدْرَاكِ تَفَاوُتًا لَا يَنْضَبِطُ فَقَدْ يَصِيرُ الْبَدِيهِيُّ عِنْدَ هَذَا دُونَ ذَاكَ بَدِيهِيًّا كَذَلِكَ أَيْضًا بِمِثْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي حَصَلَتْ لِهَذَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَدٍّ .