تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
قَالَ : ثُمَّ إنَّ الْفَلَاسِفَةَ أَصْحَابَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْبُرْهَانِيِّ الَّذِي وَضَعَهُ أَرِسْطُو وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الطَّبِيعِيِّ وَالْإِلَهِيِّ لَيْسُوا أُمَّةً وَاحِدَةً بَلْ أَصْنَافٌ مُتَفَرِّقُونَ وَبَيْنَهُمْ مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ; فَإِنَّ الْقَوْمَ كُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ كَانَ أَعْظَمَ فِي تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ أَضَلَّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ . ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } } إذْ لَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَّا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } الْآيَةُ وَقَالَ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } وَقَالَ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } الْآيَةَ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فَقَالَ : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } وَلِهَذَا يُوجَدُ أَتْبَعُ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَقَلُّ اخْتِلَافًا مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ لِلسُّنَّةِ وَكُلُّ مَنْ قَرُبَ لِلسُّنَّةِ كَانَ أَقَلَّ اخْتِلَافًا مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهَا كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ فَنَجِدُهُمْ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ اخْتِلَافًا . وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْفَلَاسِفَةِ فَلَا يَحْصُرُهُ أَحَدٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " مَقَالَاتِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيِّينَ " فَأَتَى بِالْجَمِّ الْغَفِيرِ سِوَى مَا ذَكَرَهُ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا وَكَذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ " الدَّقَائِقِ " الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَرَجَّحَ فِيهِ مَنْطِقَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْعَرَبِ عَلَى مَنْطِقِ الْيُونَانِ . وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ . وَصَنَّفَ الْغَزَالِيُّ كِتَابَ " التَّهَافُتِ " فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ . وَمَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يُصَنِّفُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي الْمَنْطِقِ وَيُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ فِيمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحَدِّ وَالْقِيَاسِ جَمِيعًا كَمَا يُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ يَلْتَفِتُ إلَى طَرِيقِهِمْ ; بَلْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ والكرامية وَالشِّيعَةُ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَانُوا يَعِيبُونَهَا وَيُبَيِّنُونَ فَسَادَهَا . وَأَوَّلُ مَنْ خَلَطَ مَنْطِقَهُمْ بِأُصُولِ الْمُسْلِمِينَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَطُولُ ذَكَرَهُ . وَهَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْكَلَامِ . وَفِي كِتَابِ " الْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ " لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى النوبختي فَصْلٌ جَيِّدٌ مِنْ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ طَرِيقَة أَرِسْطُو فِي الْمَنْطِقِ قَالَ : وَقَدْ اعْتَرَضَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَوْضَاعِ الْمَنْطِقِ هَذِهِ وَقَالُوا : أَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمَنْطِقِ إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُبْنَى مِنْ مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ فَغَلَطٌ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ إذَا أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ فَلَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْمُتَضَادَّاتِ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ : أَنْ يَقُولَ : إنَّ كُلَّ قَابِلٍ لِلْمُتَضَادَّاتِ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ جَوْهَرٌ لِأَنَّ الْخَاصَّ دَاخِلٌ فِي الْعَامِّ فَعَلَى أَيِّهِمَا دَلَّ اسْتَغْنَى عَنْ الْآخَرِ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ الْإِنْسَانُ إذَا شَاهَدَ الْأَثَرَ أَنَّ لَهُ مُؤَثِّرًا وَالْكِتَابَةَ أَنَّ لَهَا كَاتِبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ . قَالُوا : فَنَقُولُ : إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ . فَإِذَا ذُكِرَتْ إحْدَاهُمَا اُسْتُغْنِيَ بِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ الْأُخْرَى فَتَرَكَ ذِكْرَهَا لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا . قُلْنَا لَسْنَا نَجِدُ مُقَدِّمَتَيْنِ كُلِّيَّتَيْنِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى صِحَّةِ نَتِيجَةٍ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : الْجَوْهَرُ لِكُلِّ حَيٍّ وَالْحَيَاةُ لِكُلِّ إنْسَانٍ فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ أَنَّ الْجَوْهَرَ لِكُلِّ إنْسَانٍ فَسَوَاءٌ فِي الْعُقُولِ قَوْلُ الْقَائِلِ : الْجَوْهَرُ لِكُلِّ حَيٍّ وَقَوْلُهُ لِكُلِّ إنْسَانٍ . وَلَا يَجِدُونَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَمَلِيَّةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَقِفُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ إحْدَاهُمَا كَافِيَةً . وَنَقُولُ لَهُمْ أَرُونَا مُقَدِّمَتَيْنِ أُولَيَيْنِ لَا تَحْتَاجَانِ إلَى بُرْهَانٍ يَتَقَدَّمُهُمَا يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى شَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ . وَتَكُونُ الْمُقَدِّمَتَانِ فِي الْعُقُولِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ النَّتِيجَةِ فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَجِدُونَ ذَلِكَ بَطَلَ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ . قَالَ النوبختي : وَقَدْ سَأَلْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ أَنْ يُوجِدَ نِيَّةً فَمَا أَوْجَدَ نِيَّةً فَمَا ذَكَرَهُ أرسطاطاليس غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا مَعْرُوفٍ . قَالَ : فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشَّكْلَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فَهُمَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلَيْنِ عَلَى مَا بَنَاهُمَا عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَا يَصِحَّانِ ; بِقَلْبِ مُقَدِّمَتَيْهِمَا حَتَّى يَعُودَا إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ . فَالْكَلَامُ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الْكَلَامُ فِيهَا . . انْتَهَى . قَالَ ابْنُ تيمية : وَمَقْصُودُهُ أَنَّ سَائِرَ الْأَشْكَالِ إنَّمَا تُنْتَجُ بِالرَّدِّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَسَائِرُ الْأَشْكَالِ وَنِتَاجُهَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ الْمَوَادِّ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ الْكُلِّيَّةَ وَالْجُزْئِيَّةَ . وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاءُ فَائِدَتِهِ فَانْتِفَاءُ فَائِدَةِ فُرُوعِهِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَيْهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَمْ يَزَلْ فِيهَا مَنْ يَتَفَطَّنُ لِمَا فِي كَلَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ الْبَاطِلِ وَيَرُدُّهُ . وَهُمْ لِمَا هَدَاهُمْ اللَّهُ بِهِ يَتَوَافَقُونَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ وَرَدِّ الْبَاطِلِ رَأْيًا وَرِوَايَةً مِنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ وَلَا تَوَاطُؤٍ . وَهَذَا الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ يُوَافِقُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ بَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ تَطْوِيلًا وَتَكْثِيرًا لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ .