تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَيَقُولُونَ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الْعُقُولُ الْعَشْرَةُ أَوْ الْقُوَى الصَّالِحَةُ فِي النَّفْسِ وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الْقُوَى الْخَبِيثَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا عُرِفَ فَسَادُهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ ; بَلْ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ . فَإِذَا كَانَ شِرْكُ هَؤُلَاءِ وَكُفْرُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ شِرْكِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكُفْرِهِمْ فَأَيُّ كَمَالٍ لِلنَّفْسِ فِي هَذِهِ الْجَهَالَاتِ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مُفْتَقِرٌ إلَى بَسْطٍ كَثِيرٍ . وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا ادَّعَوْا فِي الْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ . وَ ( أَيْضًا فَإِذَا قَالُوا : إنَّ الْعُلُومَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ قِيَاسٌ شُمُولِيٌّ وَعِنْدَهُمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ ; وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهُ لَا نِتَاجَ عَنْ قَضِيَّتَيْنِ سَالِبَتَيْنِ وَلَا جُزْئِيَّتَيْنِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ لَا بِحَسَبِ صُورَتِهِ - كَالْحَمْلِيِّ وَالشَّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ - وَلَا بِحَسَبِ مَادَّتِهِ لَا الْبُرْهَانِيِّ وَلَا الْخَطَابِيِّ وَلَا الْجَدَلِيِّ بَلْ وَلَا الشِّعْرِيِّ . فَيُقَالُ : إذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مَا يُسَمُّونَهُ بُرْهَانًا مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ : أَيْ مِنْ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا كُلِّيَّةً وَإِلَّا فَمَتَى جُوِّزَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَكُونُ كُلِّيَّةً بَلْ جُزْئِيَّةً لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِمُوجَبِهَا . وَالْمُهْمَلَةُ وَالْمُطْلَقَةُ الَّتِي يَحْتَمِلُ لَفْظُهَا أَنْ تَكُونَ كُلِّيَّةً وَجُزْئِيَّةً فِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْقِيَاسِ الَّذِي يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْبُرْهَانِ مِنْ الْعِلْمِ بِقَضِيَّةِ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ فَيُقَالُ الْعِلْمُ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ إنْ كَانَ بَدِيهِيًّا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بَدِيهِيًّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِنْ كَانَ نَظَرِيًّا احْتَاجَ إلَى عِلْمٍ بَدِيهِيٍّ فَيُفْضِي إلَى الدَّوْرِ الْمُعْيِي أَوْ التَّسَلْسُلِ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ . وَهَكَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مَبَادِئَ الْبُرْهَانِ وَيُسَمُّونَهَا " الْوَاجِبُ قَبُولُهَا " سَوَاءٌ كَانَتْ حِسِّيَّةً ظَاهِرَةً أَوْ بَاطِنَةً وَهِيَ الَّتِي يُحِسُّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ كَانَتْ مِنْ التَّجْرِيبِيَّاتِ أَوْ الْمُتَوَاتِرَاتِ أَوْ الْحَدْسِيَّاتِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ النَّفْسِيَّاتِ الْوَاجِبِ قَبُولُهَا مِثْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِ نُورِ الْقَمَرِ مُسْتَفَادًا مِنْ الشَّمْسِ إذَا رَأَى اخْتِلَافَ أَشْكَالِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مُحَاذَاتِهِ لِلشَّمْسِ كَمَا يَخْتَلِفُ إذَا قَارَبَهَا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْهِلَالِ وَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الِاسْتِقْبَالِ عِنْدَ الْإِبْدَارِ . وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ : هَلْ الْحَدْسُ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ أَمْ لَا ؟ وَمِثْلَ الْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ وَمِثْلَ قَوْلِنَا الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَرْتَفِعَانِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فَمَا مِنْ قَضِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ تُجْعَلُ مُقَدِّمَةً فِي الْبُرْهَانِ إلَّا وَالْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ مُمْكِنٌ بِدُونِ تَوَسُّطِ ذَلِكَ الْبُرْهَانِ بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا . فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فَهُوَ نِصْفُ كُلِّ اثْنَيْنِ وَأَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ نِصْفُهُمْ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ نِصْفُ هَذَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَهَلُمَّ جَرًّا فِي سَائِرِ الْقَضَايَا الْأُخَرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْكُلَّ أَعْظَمُ مِنْ جُزْئِهِ بِدُونِ تَوَسُّطِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ . وَكَذَلِكَ هَذَانِ النَّقِيضَانِ مَنْ تَصَوَّرَهُمَا نَقِيضَيْنِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ . وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا كَمَا يَعْلَمُ الْمُعَيَّنَ الْآخَرَ وَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مَعًا وَكَذَلِكَ الضِّدَّانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَا يَكُونُ أَسْوَدَ أَبْيَضَ وَلَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ كَذَلِكَ . وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَى قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يَكُونُ أَسْوَدَ أَبْيَضَ وَلَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا سَاكِنًا . وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يَعْلَمُ تَضَادَّهُمَا فَإِنْ عَلِمَ تَضَادَّ الْمُعَيَّنَيْنِ عَلِمَ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَدِّ الْأَكْبَرِ . وَذَلِكَ لَا يُغْنِي دُونَ الْعِلْمِ بِالْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَدِّ الْأَصْغَرِ وَالْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ وَهُوَ أَنَّ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ يُمْكِنُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى : وَهُوَ أَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ . فَلَا يَفْتَقِرُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي خَصُّوهُ بِاسْمِ الْبُرْهَانِ وَإِنْ كَانَ الْبُرْهَانُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا سَمَّوْهُ هُمْ الْبُرْهَانَ ; وَإِنَّمَا خَصُّوا هُمْ لَفْظَ الْبُرْهَانِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ الَّذِي خَصُّوا صُورَتَهُ وَمَادَّتَهُ بِمَا ذَكَرُوهُ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ إبْطَالُ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ الْأَحْوَالَ وَيَقُولُ : إنَّهَا لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْدُومَةٌ فَقِيلَ : هَذَانِ نَقِيضَانِ وَكُلُّ نَقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ ; فَإِنَّ هَذَا جَعْلٌ لِلْوَاحِدِ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْحَالِ لِلْوَاحِدِ لَا مَوْجُودَةً وَلَا مَعْدُومَةً كَانَ الْعِلْمُ بِأَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مُمْكِنًا بِدُونِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَفْتَقِرُ الْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ إلَى الْبُرْهَانِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ لِوُجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَوْ لِأَحَدِ طَرَفَيْهِ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ . أَوْ قِيلَ : هَذَا مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَتِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ وَهِيَ قَوْلُنَا : كُلُّ مُحْدَثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَفْرَادِهَا الْمَطْلُوبَةِ بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ عِنْدَهُمْ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يَتِمُّ الْبُرْهَانُ عِنْدَهُمْ إلَّا بِهَا فَيُعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْحَدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَهَذَا الْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ ; فَإِنْ شَكَّ عَقْلُهُ وَجَوَّزَ أَنْ يُحْدِثَ هُوَ بِلَا مُحْدَثٍ أَحْدَثَهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ وَهُوَ مُمْكِنٌ - يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ - بِدُونِ مُرَجِّحٍ يُرَجِّحُ وُجُودَهُ جُوِّزَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; وَإِنْ جَزَمَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَحْتَجْ عِلْمُهُ بِالنَّتِيجَةِ الْمُعَيَّنَةِ - وَهُوَ قَوْلُنَا : وَهَذَا مُحْدَثٌ فَلَهُ مُحْدِثٌ أَوْ هَذَا مُمْكِنٌ فَلَهُ مُرَجِّحٌ - إلَى الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ . وَمِمَّا يُوضِحُ هَذَا : أَنَّك لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مَطْلُوبًا بِالنَّظَرِ وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِ بُرْهَانِيٍّ يَعْلَمُ صِحَّتَهُ إلَّا وَيُمْكِنُهُ الْعِلْمُ بِهِ بِدُونِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ الْمَنْطِقِيِّ ; وَلِهَذَا لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْعُقَلَاءِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ يَنْظِمُ دَلِيلَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ كَمَا يَنْظِمُهُ هَؤُلَاءِ بَلْ يَذْكُرُونَ الدَّلِيلَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْمَدْلُولِ ثُمَّ الدَّلِيلُ قَدْ يَكُونُ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً وَقَدْ يَكُونُ مُقَدِّمَتَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثَ مُقَدِّمَاتٍ بِحَسَبِ حَاجَةِ النَّاظِرِ الْمُسْتَدِلِّ ; إذْ حَاجَةُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ . وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُحَصِّلِ . وَبَيَّنَّا تَخْطِئَةَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ لِمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُمَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْهُمَا . وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْ الْمَوَادِّ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ ; فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِهَا فَسَادُ مَنْطِقِهِمْ . وَأَمَّا إذَا أَخَذْته مِنْ الْمَوَادِّ الْمَعْلُومَةِ بِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا إذَا أَرَدْنَا تَحْرِيمَ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَقُلْنَا : النَّبِيذُ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ أَوْ قُلْنَا : هُوَ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ . فَقَوْلُنَا : النَّبِيذُ الْمُسْكِرُ خَمْرٌ يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " وَقَوْلُنَا " كُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " يُعْلَمُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ; وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " . وَفِي لَفْظٍ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } " . وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا عَلَى النَّظْمِ الْمَنْطِقِيِّ لِتَبْيِينِ النَّتِيجَةِ بالمقدمتين كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَنْطِقِيُّونَ ; وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ مِمَّنْ يَظُنُّهُ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِثْلَ هَذَا الطَّرِيقِ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ ; بَلْ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ عَقْلًا وَعِلْمًا مِنْ آحَادِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ ; بَلْ يَعُدُّونَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يُحْسِنُونَ إلَّا الصِّنَاعَاتِ كَالْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْعُلُومُ الْبُرْهَانِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ وَالْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ رِجَالِهَا . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُتُبِهِمْ وَبَسَطُوا الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ كُلِّ خَمْرٍ حَرَامًا هُوَ مِمَّا عَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ . فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا شَكَّ بَعْضُهُمْ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالنَّبِيذِ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْعَسَلِ وَالْحُبُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا شَرَابٌ مَصْنُوعٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ : الْبِتْعُ وَشَرَابٌ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ : الْمَزْرُ قَالَ - وَكَانَ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " فَأَجَابَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَضِيَّةِ كُلِّيَّةٍ بَيَّنَ بِهَا أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ . وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ فَهُوَ خَمْرٌ وَهَاتَانِ قَضِيَّتَانِ كُلِّيَّتَانِ صَادِقَتَانِ مُتَطَابِقَتَانِ الْعِلْمُ بِأَيِّهِمَا كَانَ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ . إذْ لَيْسَ الْعِلْمُ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِمَا جَمِيعًا ; فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " وَهُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ وَلَكِنْ قَدْ يَحْصُلُ الشَّكُّ هَلْ أَرَادَ الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ أَوْ أَرَادَ جِنْسَ الْمُسْكِرِ وَهَذَا شَكٌّ فِي مَدْلُولِ قَوْلِهِ فَإِذَا عَلِمَ مُرَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ الْمَطْلُوبَ . وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ خَمْرٌ . وَالْعِلْمُ بِهَذَا أَوْكَدُ فِي التَّحْرِيمِ ; فَإِنَّ مَنْ يُحَلِّلُ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ لَا يُسَمِّيهِ خَمْرًا فَإِذَا عَلِمَ بِالنَّصِّ أَنَّ " { كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " كَانَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمِنْ بِالرَّسُولِ فَهَذَا لَا يُسْتَدَلُّ بِنَصِّهِ . وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَهَذَا لَا يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } " بَلْ يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ : " { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } " وَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ بِهَذَا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْمُسْكِرَ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ عِنْدَ الشَّارِعِ . وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ عِنْدَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مُسْكِرٍ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ " الْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ " بَلْ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّمْثِيلِ ; فَإِنَّ هَذَا الْمِثَالَ كَثِيرًا مَا يُمَثِّلُ بِهِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . والمنطقيون يُمَثِّلُونَ بِصُورَةِ مُجَرَّدَةٍ عَنْ الْمَوَادِّ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِئَلَّا يُسْتَفَادَ الْعِلْمُ بِالْمِثَالِ مِنْ صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا يَقُولُونَ : كُلُّ أ : بـ وَكُلُّ بـ : ج . فَكُلُّ أ : ج وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِلْمُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ . فَإِذَا جُرِّدَتْ يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُعَيَّنَاتِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إذَا طُولِبُوا بِالْعِلْمِ بالمقدمتين الْكُلِّيَّتَيْنِ فِي جَمِيعِ مَطَالِبِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُؤْخَذْ عَنْ الْمَعْصُومِينَ تَجِدُهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْعِلْمُ فِيهَا بِالْمُعَيَّنَاتِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِهَا مَوْقُوفًا عَلَى الْبُرْهَانِ . فَالْقَضَايَا النَّبَوِيَّةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي سَمَّوْهُ بُرْهَانًا . وَمَا يُسْتَفَادُ بِالْعَقْلِ مِنْ الْعُلُومِ أَيْضًا لَا يَحْتَاجُ إلَى قِيَاسِهِمْ الْبُرْهَانِيِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَا فِي السَّمْعِيَّاتِ وَلَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ لَا يَحْصُلُ عِلْمٌ إلَّا بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْقَضَايَا الْحِسِّيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا جُزْئِيَّةً فَنَحْنُ لَمْ نُدْرِكْ بِالْحِسِّ إلَّا إحْرَاقَ هَذِهِ النَّارِ وَهَذِهِ النَّارِ لَمْ نُدْرِكْ أَنَّ كُلَّ نَارٍ مُحْرِقَةٌ فَإِذَا جَعَلْنَا هَذِهِ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً وَقُلْنَا : كُلُّ نَارٍ مُحْرِقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَنَا طَرِيقٌ نَعْلَمُ بِهِ صِدْقَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ عِلْمًا يَقِينِيًّا إلَّا وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ ; فَإِنَّ الْبُرْهَانَ لَا يُفِيدُ إلَّا الْعِلْمَ بِقَضِيَّةِ كُلِّيَّةٍ فَالنَّتَائِجُ الْمَعْلُومَةُ بِالْبُرْهَانِ لَا تَكُونُ إلَّا كُلِّيَّةً كَمَا يَقُولُونَ هُمْ ذَلِكَ . وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . قِيلَ : فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُفِيدُ الْبُرْهَانُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مَوْجُودٍ ; بَلْ بِأُمُورِ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا يُعْلَمُ تَحَقُّقُهَا فِي الْأَعْيَانِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبُرْهَانِ عِلْمٌ بِمَوْجُودِ فَيَكُونُ قَلِيلَ الْمَنْفَعَةِ جِدًّا ; بَلْ عَدِيمَ الْمَنْفَعَةِ . وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ بَلْ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَلَكِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . أَنَّ الْمَطَالِبَ الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ اللَّازِمَةِ بَلْ الْأَكْثَرِيَّةِ لَا تُفِيدُ مَقْصُودَ الْبُرْهَانِ .