تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ الْخَارِقُ كَشْفًا كَانَ أَوْ تَأْثِيرًا إنْ حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي الدِّينِ كَانَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا دِينًا وَشَرْعًا إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي شُكْرًا وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ كَانَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ أَوْ الْبُغْضِ كَقِصَّةِ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا : بلعام بْنُ باعوراء ; لَكِنْ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا مَعْذُورًا لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ نَقْصِ عَقْلٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَلَبَةِ حَالٍ أَوْ عَجْزٍ أَوْ ضَرُورَةٍ . فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِ بَرْحٍ الْعَابِدِ . وَ " النَّهْيُ " قَدْ يَعُودُ إلَى سَبَبِ الْخَارِقِ وَقَدْ يَعُودُ إلَى مَقْصُودِهِ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ دُعَاءً مَنْهِيًّا عَنْهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَمِثْلُ الْأَعْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا إذَا أَوْرَثَتْ كَشْفًا أَوْ تَأْثِيرًا . وَالثَّانِي أَنْ يَدْعُوَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْ يَدْعُوَ لِلظَّالِمِ بِالْإِعَانَةِ وَيُعِينَهُ بِهِمَّتِهِ : كَخُفَرَاءِ الْعَدُوِّ وَأَعْوَانِ الظَّلَمَةِ مِنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ ; فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ وَالْمَغْلُوبِينَ غَلَبَةً بِحَيْثُ يُعْذَرُونَ وَالنَّاقِصِينَ نَقْصًا لَا يُلَامُونَ عَلَيْهِ كَانُوا برحية . وَقَدْ بَيَّنْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يُعْذَرُونَ فِيهِ وَمَا لَا يُعْذَرُونَ فِيهِ وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ قَادِرِينَ كَانُوا بلعامية فَإِنَّ مَنْ أَتَى بِخَارِقِ عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ لِمَقْصُودِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا مَعْفُوًّا عَنْهُ كَبَرْحِ أَوْ يَكُونُ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ كبلعام . فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْخَارِقَ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " : مَحْمُودٌ فِي الدِّينِ وَمَذْمُومٌ فِي الدِّينِ وَمُبَاحٌ لَا مَحْمُودٌ وَلَا مَذْمُومٌ فِي الدِّينِ ; فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ فِيهِ مَنْفَعَةً كَانَ نِعْمَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَانَ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا كَاللَّعِبِ وَالْعَبَثِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الجوزجاني : كُنْ طَالِبًا لِلِاسْتِقَامَةِ لَا طَالِبًا لِلْكَرَامَةِ . فَإِنَّ نَفْسَك منجبلة عَلَى طَلَبِ الْكَرَامَةِ وَرَبُّك يَطْلُبُ مِنْك الِاسْتِقَامَةَ . قَالَ الشَّيْخُ السهروردي فِي عَوَارِفِهِ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْلٌ عَظِيمٌ كَبِيرٌ فِي الْبَابِ وَسِرٌّ غَفَلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ وَالطُّلَّابِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ والمتعبدين سَمِعُوا عَنْ سَلَفِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَا مُنِحُوا بِهِ مِنْ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَأَبَدًا نُفُوسُهُمْ لَا تَزَالُ تَتَطَلَّعُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُرْزَقُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ يَبْقَى مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ مُتَّهِمًا لِنَفْسِهِ فِي صِحَّةِ عَمَلِهِ حَيْثُ لَمْ يُكَاشِفْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عَلِمُوا سِرَّ ذَلِكَ لَهَانَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ فَيُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ عَلَى بَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ الصَّادِقِينَ مِنْ ذَلِكَ بَابًا وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ يَزْدَادَ بِمَا يَرَى مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَآثَارِ الْقُدْرَةِ تَفَنُّنًا فَيَقْوَى عَزْمُهُ عَلَى هَذَا الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ عِبَادِهِ يُكَاشِفُ بِصِدْقِ الْيَقِينِ وَيَرْفَعُ عَنْ قَلْبِهِ الْحِجَابَ وَمَنْ كُوشِفَ بِصِدْقِ الْيَقِينِ أُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ رُؤْيَةِ خَرْقِ الْعَادَاتِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا كَانَ حُصُولُ الْيَقِينِ وَقَدْ حَصَلَ الْيَقِينُ فَلَوْ كُوشِفَ هَذَا الْمَرْزُوقُ صِدْقَ الْيَقِينِ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ لَازْدَادَ يَقِينًا . فَلَا تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ كَشْفَ الْقُدْرَةِ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ لِهَذَا الْمَوْضِعِ اسْتِغْنَاءً بِهِ وَتَقْتَضِي الْحِكْمَةُ كَشْفَ ذَلِكَ الْآخَرِ لِمَوْضِعِ حَاجَتِهِ وَكَانَ هَذَا الثَّانِي يَكُونُ أَتَمَّ اسْتِعْدَادًا وَأَهْلِيَّةً مِنْ الْأَوَّلِ . فَسَبِيلُ الصَّادِقِ مُطَالَبَةُ النَّفْسِ بِالِاسْتِقَامَةِ فَهِيَ كُلُّ الْكَرَامَةِ . ثُمَّ إذَا وَقَعَ فِي طَرِيقِهِ شَيْءٌ خَارِقٌ كَانَ كَأَنْ لَمْ يَقَعْ فَمَا يُبَالِي وَلَا يَنْقُصُ بِذَلِكَ . وَإِنَّمَا يَنْقُصُ بِالْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ حَقِّ الِاسْتِقَامَةِ . فَتَعْلَمُ هَذَا ; لِأَنَّهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ لِلطَّالِبِينَ وَالْعُلَمَاءِ الزَّاهِدِينَ وَمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ .