مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ ; بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ . وَأَصْلُ عِبَادَتِهِ مَعْرِفَتُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ ; وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَاَلَّذِينَ يُنْكِرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَمَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ وَلَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ ; لِيُثْبِتَ عَظَمَتَهُ فِي نَفْسِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَلِيُثْبِتَ وَحْدَانِيَّتَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إلَّا هُوَ وَلِيُثْبِتَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ فَقَالَ فِي الزُّمَرِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الْآيَةَ . وَقَالَ فِي الْحَجِّ : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } . وَفِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ذَمَّ الَّذِينَ مَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْدُرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَهُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَأَنْ يُجَاهِدَ فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } وَقَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } وَالْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ مُرَادٌ أَيْ حَقَّ جِهَادِهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ وَحَقَّ تُقَاتِهِ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِهَا وَاقْدُرُوهُ قَدْرَهُ الَّذِي بَيَّنَهُ لَكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِهِ فَصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ وَأَطِيعُوهُ فِيمَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ . وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ عَنْ طَاقَةِ الْبَشَرِ فَذَلِكَ لَا يُذَمُّ أَحَدٌ عَلَى تَرْكِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ . وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ قَدْرًا عَظِيمًا ; لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَنْ آمَنَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَقَدْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ يَحْمِلُ السَّمَوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى أُصْبُعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى أُصْبُعٍ ; فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { قَالَ : مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ إذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَى ذِهِ ؟ وَالْأَرْضَ عَلَى ذِهِ وَالْجِبَالَ وَالْمَاءَ عَلَى ذِهِ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ والترمذي مِنْ حَدِيثِ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ غَرِيبٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَظَمَتَهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفَ ذَلِكَ الْحَبْرُ فَإِنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ أَبْلَغُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ } ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى . ثُمَّ يَقُولُ : أَيْنَ الْمُلُوكُ ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ } ؟ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى . وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي ثِنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ ثِنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : تَكَلَّمَتْ الْيَهُودُ فِي صِفَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالُوا مَا لَمْ يَعْلَمُوا وَلَمْ يَرَوْا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَجَعَلَ صِفَتَهُ الَّتِي وَصَفُوهُ بِهَا شِرْكًا . وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ثِنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثِنَا الْحَكَمُ يَعْنِي أَبَا مُعَاذٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : عَمَدَتْ الْيَهُودُ فَنَظَرُوا فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا فَرَغُوا أَخَذُوا يُقَدِّرُونَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفُوهُ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ . وَقَوْلُهُ : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ مَخْلُوقًا مِثْلًا لِلْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَحَبَّهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّ الْخَالِقَ أَوْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ مَا يُوصَفُ بِهِ الْخَالِقُ فَهُوَ مُشْرِكٌ سَوَّى بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَعَدَلَ بِرَبِّهِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا كُفُؤَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ وَمَنْ جَعَلَهُ مِثْلَ الْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ مُعَطِّلٌ مُمَثِّلٌ وَالْمُعَطِّلُ شَرٌّ مِنْ الْمُشْرِكِ . وَاَللَّهُ ثَنَّى قِصَّةَ فِرْعَوْنَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ; لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمُلْكِ وَدَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْعُلُوِّ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهُ لِأَحَدِ مِنْ الْمُعَطِّلِينَ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ إلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى