مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
فَصْلٌ ثُمَّ حَدَثَ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ " الْقَدَرِيَّةُ " فَكَانَتْ الْخَوَارِجُ تَتَكَلَّمُ فِي حُكْمِ اللَّهِ الشَّرْعِيِّ : أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَحُكْمِ مَنْ وَافَقَ ذَلِكَ وَمَنْ خَالَفَهُ وَمَنْ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا وَهِيَ " مَسَائِلُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَسُمُّوا مُحَكِّمَةً لِخَوْضِهِمْ فِي التَّحْكِيمِ بِالْبَاطِلِ وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا قَالَ : لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ قَالُوا : هُوَ مُحَكِّمٌ أَيْ خَائِضٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ فَخَاضَ أُولَئِكَ فِي شَرْعِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ " فَخَاضُوا فِي قَدَرِهِ بِالْبَاطِلِ . وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْقَدَرَ يُنَاقِضُ الشَّرْعَ فَصَارُوا حِزْبَيْنِ حِزْبًا يُعَظِّمُونَ الشَّرْعَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَاتِّبَاعَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَهَجْرَ مَا يُبْغِضُهُ وَمَا يُسْخِطُهُ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدَرِ فَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَنَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ كَمَا قَطَعَتْ الْخَوَارِجُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ الْجَمَاعَةِ فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْكِتَابِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَكَذَلِكَ " الْقَدَرِيَّةُ " فَصَارُوا حِزْبَيْنِ . حِزْبًا يُغَلِّبُ الشَّرْعَ فَيُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ وَيَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي بَعْضَهُ . و " حِزْبًا " يُغَلِّبُ الْقَدَرَ فَيَنْفِي الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ أَوْ يَنْفِي حَقِيقَتَهُ وَيَقُولُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُبْغِضُهُ ; لَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ يَأْمُرُ بِهَذَا وَيَنْهَى عَنْ مِثْلِهِ فَجَحَدُوا الْفَرْقَ وَالْفَصْلَ الَّذِي بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَبَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْفَرْقِ فَأَنْكَرُوا الْجَمْعَ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ وَأَثْبَتُوا لِغَيْرِ اللَّهِ الِانْفِرَادَ بِالْأَحْدَاثِ وَشُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كَمَا فَعَلَتْ الْمَجُوسُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ إلَّا مَعَ تَعْجِيزِهِ أَوْ تَجْهِيلِهِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ إنْ لَمْ يُجْعَلْ عَاجِزًا وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَخِيلًا . كَمَا أَنَّ " الْقَدَرِيَّةَ الْمُجَبِّرَةَ " قَالُوا : لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِتَسْفِيهِهِ وَتَجْوِيرِهِ . فَهَؤُلَاءِ نَفَوْا حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ وَأُولَئِكَ نَفَوْا قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ أَوْ قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَعِلْمَهُ وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا الْمَجُوسَ فِي الْإِشْرَاكِ بِرُبُوبِيَّتِهِ حَيْثُ جَعَلُوا غَيْرَهُ خَالِقًا وَأُولَئِكَ ضَاهَوْا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ بَلْ يُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ كَمَا يُجَوِّزُونَ عِبَادَتَهُ وَيَقُولُونَ : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } الْآيَةَ وَهَؤُلَاءِ مُنْتَهَى تَوْحِيدِهِمْ تَوْحِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ فَأَمَّا تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُمْ يُنْكِرُونَهُ وَلِهَذَا هُمْ أَكْثَرُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَتَجْوِيزًا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُنْتَهَى مُتَكَلِّمِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ تَجْوِيزُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَنَّ الْعَارِفَ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَأَمَّا عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فَبَاحَ بِهَا مُتَأَخِّرُوهُمْ كالرازي صَنَّفَ فِيهَا مُصَنَّفًا وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمَا يُصَرِّحُونَ بِجَوَازِ عِبَادَتِهَا وَبِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ . ف " الْقَدَرِيَّةُ " أَصْلُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ; إذْ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَفَعَلَ غَيْرَ مَا فَعَلَ فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ وَقَالُوا : تَثْبُتُ حِكْمَتُهُ كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ ; لِأَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يُوجِبُ السَّفَهَ وَالظُّلْمَ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ; بِخِلَافِ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَا يُلَامُ عَلَيْهِ وَقَالَتْ : " الْمُجَبِّرَةُ " بَلْ قُدْرَتُهُ ثَابِتَةٌ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ لِحِكْمَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْحَاجَةِ وَلَا عَدْلَ وَلَا ظُلْمَ بَلْ كُلُّ مَا أَمْكَنَ فِعْلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ وَلَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ مَا هُوَ حَسَنٌ يَنْبَغِي الْأَمْرُ بِهِ وَقَبِيحٌ يَنْبَغِي النَّهْيُ عَنْهُ وَلَا مَعْرُوفَ وَمُنْكَرَ ; بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ شَيْءٍ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ . ثُمَّ مَنْ حَقَّقَ مِنْهُمْ أَنْكَرَ الشَّرْعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنْكَرَ النُّبُوَّاتِ مَعَ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَأْمُرَ بِشَيْءِ وَيَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ; فَإِنَّ هَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَحِيصًا ; لَكِنْ مَنْ اتَّبَعَ الْأَنْبِيَاءَ يَأْمُرُ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَنْفَعُ غَيْرَهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ وَمَنْ خَالَفَ الْأَنْبِيَاءَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يَضُرُّ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ فَيَسْتَحِقُّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِرًّا بِالنُّبُوَّةِ فَأَنْكَرَ الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ : الْعَارِفُ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً صَارَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ وَيَقُولُ الشَّرْعُ لِأَجْلِ الْمَارَسْتَانِ ; وَلِهَذَا يُسَمَّوْنَ " بَاطِنِيَّةً " كَمَا سَمَّوْا الْمَلَاحِدَةَ " بَاطِنِيَّةً " فَإِنَّ كِلَاهُمَا يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ يُبْطِنُونَ تَعْطِيلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَمُنْتَهَى الجهمية الْمُجَبِّرَةِ إمَّا مُشْرِكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِمَّا مُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ الشِّرْكَ ; وَلِهَذَا يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ مُحَمَّدًا وَأَتْبَاعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِقَوْلِهِ : { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } وَبِأَنَّهُ { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَلِذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ التَّتَارُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَثُرَ فِي عُبَّادِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ مَنْ صَارَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ إمَّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا وَقَالَ : إنَّهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ وَمَعَ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَصَارُوا يَحْتَجُّونَ لِمَنْ هُوَ مُعَظِّمٌ لِلرُّسُلِ عَمَّا [ لَا ] يُوَافِقُ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَمُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ هُوَ بِأَمْرِ الرَّسُولِ فَتَارَةً تَأْتِيهِمْ شَيَاطِينُهُمْ بِمَا يُخَيِّلُونَ لَهُمْ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ مِنْ نُورٍ وَأَنَّ الرَّسُولَ أَمَرَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَصَوْا . وَلِمَا ظَهَرَ أَنَّ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خُفَرَاءُ لَهُمْ مِنْ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ بِرِجَالِ الْغَيْبِ وَأَنَّ لَهُمْ خَوَارِقَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ صَارَ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ . حِزْبٌ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ هَؤُلَاءِ ; وَلَكِنْ عَايَنَهُمْ النَّاسُ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَمَّنْ عَايَنَهُمْ أَوْ حَدَّثَهُ الثقاة بِمَا رَأَوْهُ [ و ] هَؤُلَاءِ إذَا رَأَوْهُمْ أَوْ تَيَقَّنُوا وُجُودَهُمْ خَضَعُوا لَهُمْ . وَحِزْبٌ عَرَفُوهُمْ وَرَجَعُوا إلَى الْقَدَرِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ثَمَّ فِي الْبَاطِنِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ . وَحِزْبٌ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ خَارِجِينَ عَنْ دَائِرَةِ الرَّسُولِ فَقَالُوا : يَكُونُ الرَّسُولُ هُوَ مُمِدًّا لِلطَّائِفَتَيْنِ لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَهَؤُلَاءِ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ جَاهِلُونَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ وَاَلَّذِينَ قَبْلَهُمْ يُجَوِّزُونَ اتِّبَاعَ دِينٍ غَيْرِ دِينِهِ وَطَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِ . وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِدِمَشْقَ لَمَّا فُتِحَتْ عَكَّا ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ وَأَنَّ الَّذِينَ مَعَ الْكُفَّارِ شَيَاطِينُ وَأَنَّ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْإِنْسِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِمْ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } . وَكَانَ سَبَبُ الضَّلَالِ عَدَمَ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَصْلُهُ قَوْلُ الجهمية الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَسْخُوطِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ جَرَتْ أُمُورٌ يَطُولُ وَصْفُهَا . وَلَمَّا جَاءَ قازان وَقَدْ أَسْلَمَ دِمَشْقُ انْكَشَفَتْ أُمُورٌ أُخْرَى فَظَهَرَ أَنَّ اليونسية كَانُوا قَدْ ارْتَدُّوا وَصَارُوا كُفَّارًا مَعَ الْكُفَّارِ . وَحَضَرَ عِنْدِي بَعْضُ شُيُوخِهِمْ وَاعْتَرَفَ بِالرِّدَّةِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَحَدَّثَنِي بِفُصُولِ كَثِيرَةٍ فَقُلْت لَهُ لَمَّا ذَكَرَ لِي احْتِجَاجَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ : فَهَبْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ بَغْدَادَ كَانُوا قَدْ عَصَوْا وَكَانَ فِي بَغْدَادَ بِضْعَةَ عَشَرَ بَغِيًّا فَالْجَيْشُ الْكُفَّارُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَاءُوا كَانُوا شَرًّا مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُنَّ يَزْنِينَ اخْتِيَارًا فَأَخَذَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ مِنْ حَرَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَسَرَارِيهِمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَرَدُّوهُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ وَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَدِينَ النَّصَارَى وَتَعْظِيمَ الصَّلِيبِ حَتَّى بَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مَقْهُورِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ تَضَاعِيفِ مَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ الْمَعَاصِي فَهَلْ يَأْمُرُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَيَرْضَى بِهَذَا فَتَبَيَّنَ لَهُ وَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ وَأَخْبَرَنِي عَنْ رِدَّةِ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الشُّيُوخِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَتْ شَيَاطِينُ الْمُشْرِكِينَ تُكْرِهُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ فِي الْبَاطِنِ وَتُعَذِّبُهُمْ إنْ لَمْ يَرْتَدُّوا فَقُلْت كَانَ هَذَا لِضَعْفِ إيمَانِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ وَالْمَادَّةِ الَّتِي يَشْهَدُونَهَا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ وَإِلَّا فَالشَّيَاطِينُ لَا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى قُلُوبِ الْمُوَحِّدِينَ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ بَلْ أَنَّهُمْ رِجَالٌ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ الْإِنْسِ وَكَّلَهُمْ اللَّهُ بِتَصْرِيفِ الْأَمْرِ فَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ إنْسٌ فَمِنْ جَهْلِهِ وَغَلَطِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَ يُؤْنِسُونَ أَيْ يَشْهَدُونَ وَيَرَوْنَ ; إنَّمَا يَحْتَجِبُ الْإِنْسِيُّ أَحْيَانًا لَا يَكُونُ دَائِمًا مُحْتَجِبًا عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ ; بِخِلَافِ الْجِنِّ فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ { إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ } . وَكَانَ غَيْرَ هَذَا مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكْرَانِ أَنَّ " هُولَاكُو مَلِكَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ رَأَى ابْنَ السَّكْرَانِ شَيْخًا مَحْلُوقَ الرَّأْسِ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ وَالطَّرِيقِ آخِذًا بِفَرَسِ هُولَاكُو قَالَ : فَلَمَّا رَأَيْته أَنْكَرْت هَذَا وَاسْتَعْظَمْت أَنْ يَكُونَ شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ يَقُودُ فَرَسَ مَلِكِ الْمُشْرِكِينَ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْت : يَا هَذَا أَوْ كَلِمَةٌ نَحْوُ هَذَا فَقَالَ تَأْمُرُ بِأَمْرِ أَوْ قَالَ لَهُ : هَلْ يَفْعَلُ هَذَا بِأَمْرِ أَوْ فَعَلْت هَذَا بِأَمْرِ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ بِأَمْرِ فَسَكَتَ ابْنُ السَّكْرَانِ وَأَقْنَعَهُ هَذَا الْجَوَابُ وَكَانَ هَذَا لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَظَنَّ أَنَّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الشُّيُوخُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ : حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ يُنَاجِيهِ وَمَنْ قَالَ : أَخَذْتُمْ عِلْمَكُمْ مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ وَأَخَذْنَا عِلْمَنَا عَنْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ هُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا أَضَلُّ مِمَّنْ ادَّعَى الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى وَاسِطَتِهِمْ . وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لَهُ : بِأَمْرِ مَنْ تَأْمُرُ ؟ فَإِنْ قَالَ : بِأَمْرِ اللَّهِ قِيلَ : بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ الْقُرْآنَ أَمْ بِأَمْرِ وَقَعَ فِي قَلْبِك ؟ فَإِنْ قَالَ : بِالْأَوَّلِ ظَهَرَ كَذِبُهُ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ ذُنُوبٍ فَعَلُوهَا وَيَجْعَلَ الدَّارَ تُعْبَدُ بِهَا الْأَوْثَانُ وَيُضْرَبُ فِيهَا بِالنَّوَاقِيسِ وَيُقْتَلُ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرْعِ وَيُعَظَّمُ النجسية عُلَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَقَسَاوِسَةُ النَّصَارَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ عَدَاوَةً لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَأُولَئِكَ عُصَاةٌ مِنْ عُصَاةِ أُمَّتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فَالْمُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ نِفَاقَهُمْ . وَإِنْ قَالَ : بِأَمْرِ وَقَعَ فِي قَلْبِي لَمْ يَكْذِبْ لَكِنْ يُقَالُ مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّ هَذَا رَحْمَانِيٌّ وَلِمَ لَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي أَمَرَك بِهَذَا ؟ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ الْجَمِيعَ بِمَشِيئَتِهِ قِيلَ لَهُ : فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا يَفْعَلُهُ الشَّيْطَانُ وَالْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُوَ بِالْأَمْرِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ بِالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ فَجَمِيعُ الْخَلْقِ دَاخِلُونَ تَحْتَهُ ; لَكِنْ مَنْ فَعَلَ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْأَمْرِ لَا بِأَمْرِ الرَّسُولِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ عَابِدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَمِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ اللَّهُ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَكَيْفَ تَأْمُرُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَتُسَلِّطُ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ كَمَا لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ إذَا جُعِلَتْ الْفَاحِشَةُ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَعْظُمُ قُبْحُهُ فَكَانَتْ جَمِيعُ الْقَبَائِحِ السَّيِّئَةِ دَاخِلَةً فِي الْفَحْشَاءِ . وَكَانَ أَيْضًا بِالشَّامِ بَعْضُ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ بِبَعْلَبَكَّ - الشَّيْخُ عُثْمَانُ شَيْخُ دَيْرِ نَاعِسٍ - يَأْتِيهِ خَفِيرُ الفرنج النَّصَارَى رَاكِبًا أَسَدًا وَيَخْلُو بِهِ وَيُنَاجِيهِ وَيَقُولُ : يَا شَيْخُ عُثْمَانُ وُكِّلْت بِحِفْظِ خَنَازِيرِهِمْ فَيَعْذُرُهُ عُثْمَانُ وَأَتْبَاعُهُ فِي ذَلِكَ وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذَا كَمَا أَمَرَ الْخَضِرَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ كَمَا عَذَرَ ابْنُ السَّكْرَانِ وَأَمْثَالُهُ خُفَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ التَّتَارِ . وَالْجَوَابُ لِهَذَا كَالْجَوَابِ لِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ : وَكَّلَك اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا ؟ [ الَّذِي ] أَنْزَلَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الدِّينَ أَمَرَ أَنْ يُوَالِيَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا يَتَّخِذَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ; بَلْ أَمَرَك أَنْ تُبْغِضَهُمْ وَتُجَاهِدَهُمْ بِمَا اسْتَطَعْت هُوَ أَمَرَك أَنْ تَتَوَكَّلَ بِحِفْظِ خَنَازِيرِهِمْ فَإِنْ قَالَ : هَذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ وَإِنْ قَالَ : بَلْ هُوَ أَمْرٌ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي لَمْ يَكْذِبْ وَقِيلَ لَهُ : فَهَذَا مِنْ أَمْرِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَمْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ ; وَلَكِنَّهُ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَوَّنَهُ وَقَدَّرَهُ كَشِرْكِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُؤَيَّدُ بِهِمْ الْكُفَّارُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ كَالْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلَةِ بِبَنِي آدَمَ الْمُعَقِّبَاتِ . فَقُلْت لِشَيْخِ كَانَ مِنْ شُيُوخِهِمْ : مُحَمَّدٌ أُرْسِلَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَى الْمَلَائِكَةِ فَكُلُّ إنْسِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ خَرَجَ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ لَا وَلِيٌّ لِلَّهِ ; بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : الْمَلَائِكَةُ لَا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمَعَاصِي وَلَا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ; وَإِنَّمَا يُعَاوِنُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيَاطِينُ ; وَلَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَكُونُ مُوَكَّلَةً بِخَلْقِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةِ فَهَذَا الْجَوَابُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ خُفَرَاءِ الْكُفَّارِ وَكَانَ وَالِدُهُ يُقَالُ لَهُ : " مُحَمَّدٌ الْخَالِدِيُّ نِسْبَةً إلَى شَيْطَانٍ كَانَ يُقَرِّبُهُ يُقَالُ لَهُ الشَّيْخُ خَالِدٌ وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ مِنْ الْإِنْسِ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ .
وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ ضَيَّعُوا الطَّرِيقَ وَلَعَمْرِي لَقَدْ ضَيَّعُوا طَرِيقَ الشَّيَاطِينِ : شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ : الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ يُوَالُونَ الشُّيُوخَ الَّذِينَ يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ خُفَرَاءُ الْكُفَّارِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اشْتَرَكُوا هُمْ وَهُمْ فِي أَصْلِ ضَلَالَةٍ وَهُوَ : أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخَوَارِقَ الشَّيْطَانِيَّةَ مِنْ جِنْسِ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } فَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عَشَوْا عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَنْ الرُّوحِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَى نَبِيِّهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ نُورًا يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَبِهِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُعْجِزَاتِهِمْ وَبَيْنَ خَوَارِقِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ ; إذْ هَذَا " مَذْهَبُ الجهمية الْمُجَبِّرَةِ " وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ فَلَا يَجْعَلُونَ اللَّهَ يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا نَهَى عَنْهُ بَلْ يَجْعَلُونَ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فَبَقِيَ جَمِيعُ الْأُمُورِ عِنْدَهُمْ سَوَاءً وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بِنَوْعِ مِنْ الْخَوَارِقِ فَمَنْ كَانَ لَهُ خَارِقٌ جَعَلُوهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَخَضَعُوا لَهُ إمَّا اتِّبَاعًا لَهُ وَإِمَّا مُوَافَقَةً لَهُ وَمَحَبَّةً وَإِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا لَهُ حَالَهُ فَلَا يُحِبُّوهُ وَلَا يُبْغِضُوهُ إذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرُونَ بِهِ الْمُنْكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ { مَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ } وَمَيِّتُو الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { إنْ الْفِتْنَةَ تُعْرَضُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّمَا قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ وَأَيُّمَا قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى تَبْقَى الْقُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ : قَلْبٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا لَا يَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَقَلْبٌ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ } . فَهَؤُلَاءِ الْعُبَّادُ الزُّهَّادُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ بِآرَائِهِمْ وَذَوْقِهِمْ وَوَجْدِهِمْ لَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُنْتَهَاهُمْ اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُمْ هِيَ قَوْلَ " الجهمية الْمُجَبِّرَةِ " فَرَأَوْا أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ اشْتَرَكَتْ فِي الْمَشِيئَةِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ هَذَا وَيَرْضَاهُ وَهَذَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ ; فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَيُبْغِضُ الْمُنْكَرَ فَإِذَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا نُكِتَ فِي قُلُوبِهِمْ نُكَتٌ سُودٌ فَسُوِّدَ قُلُوبُهُمْ فَيَكُونُ الْمَعْرُوفُ مَا يَهْوَوْنَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَجِدُونَهُ وَيَذُوقُونَهُ وَيَكُونُ الْمُنْكَرُ مَا يَهْوَوْنَ بُغْضَهُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ قُلُوبُهُمْ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا { عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي هَؤُلَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَنْ يَنْفِرُونَ عَنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ كَمَا تَنْفِرُ الْحُمُرُ الْمُسْتَنْفِرَةُ الَّتِي تَفِرُّ مِنْ الرُّمَاةِ وَمِنْ الْأَسَدِ وَلِهَذَا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ إذَا قِيلَ لَهُمْ قَالَ الْمُصْطَفَى نَفَرُوا . وَكَانَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ بْنُ مِعْضَادٍ يَقُولُ - لِمَنْ رَآهُ مِنْ هَؤُلَاءِ كاليونسية وَالْأَحْمَدِيَّةِ - يَا خَنَازِيرُ يَا أَبْنَاءَ الْخَنَازِيرِ مَا أَرَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَكُمْ رَائِحَةً { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } كُلٌّ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ فَيَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ الرَّسُولِ { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ " الْقَدَرِيَّةِ الجهمية الْمُجَبِّرَةِ " أَعْظَمُ مُنَاقَضَةً لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَوْلِ النفاة وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُظْهِرِينَ لِهَذَا فِي زَمَنِ السَّلَفِ ; بَلْ كُلَّمَا ضَعُفَ نُورُ النُّبُوَّةِ أَظْهَرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَمُنْتَهَاهُمْ الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَهَذَا جِمَاعُ الْكُفْرِ كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ جِمَاعُ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا صَارُوا مَعَ أَهْلِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " الْقَدَرِيَّةَ الْمُجَبِّرَةَ " مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَنَّ " النَّافِيَةَ " مِنْ جِنْسِ الْمَجُوسِ وَأَنَّ الْمُجَبِّرَةَ مَا عِنْدَهُمْ سِوَى الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالنَّافِيَةُ تَنْفِي الْقُدْرَةَ الْعَامَّةَ وَالْمَشِيئَةَ التَّامَّةَ وَتَزْعُمُ أَنَّهَا تُثْبِتُ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ وَفِي الْحَقِيقَةِ كِلَاهُمَا نَافٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأُولَئِكَ يَتَعَلَّقُونَ بِقَوْلِهِ : { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } و { اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ إثْبَاتًا لِقُدْرَتِهِ لَا نَفْيًا لِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ ; بَلْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَلَا أَحَدَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَارِضَهُ إذَا شَاءَ شَيْئًا بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مَا يَشَاءُ ; بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَشَاءُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَهَا ; وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَقُولَن أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ } وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَالُ : افْعَلْ كَذَا إنْ شِئْت لِمَنْ قَدْ يَفْعَلُهُ مُكْرَهًا فَيَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا يَشَاءُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } و { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ لِإِثْبَاتِ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ النفاة الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَشَأْ كُلَّ مَا كَانَ بَلْ لَا يَشَاءُ إلَّا الطَّاعَةَ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ شَاءَهَا وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ عَصَاهُ وَلَيْسَ هُوَ قَادِرًا عِنْدَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ لَا مُطِيعًا وَلَا عَاصِيًا . فَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَحْتَجُّ بِهَا الْمُجَبِّرَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ النفاة كَمَا أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا النفاة الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَكَمٌ عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْخَلْقَ عَبَثًا وَنَحْوَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ; بَلْ مَا تَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْأُخْرَى وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ وَبَعْضُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَمَارَوْنَ فِي الْقَدَرِ . هَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ ؟ } وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي بَعْضِ مُنَاظَرَتِهِ لِمَنْ صَارَ يَضْرِبُ الْآيَاتِ بَعْضَهَا بِبَعْضِ : إنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ هَذَا . فَمَنْ دَفَعَ نُصُوصًا يَحْتَجُّ بِهَا غَيْرُهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا بَلْ آمَنَ بِمَا يَحْتَجُّ صَارَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ . وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَقَدْ تَرَكُوا كُلُّهُمْ بَعْضَ النُّصُوصِ وَهُوَ مَا يَجْمَعُ تِلْكَ الْأَقْوَالَ فَصَارُوا كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ إذْ لَمْ يَبْقَ هُنَا حَقٌّ جَامِعٌ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ ; بَلْ { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْحَقِّ إلَّا مَا وَافَقُوا فِيهِ الرَّسُولَ وَهُوَ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ شَرْعِهِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَأَمَّا مَا ابْتَدَعُوهُ فَكُلُّهُ ضَلَالَةٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْبِدْعَةُ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِمَّا أَخَذُوا بِهِ مِنْ الشِّرْعَةِ يَجْعَلُونَ تِلْكَ هِيَ " الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ " كَالْقَدَرِيَّةِ الْمُجَبِّرَةِ والنفاة فَكِلَاهُمَا يَجْعَلُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأُصُولِ - وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْعَقْلِيَّاتِ - أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِمَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ الشَّرْعِ ; فَالْمُعْتَزِلَةُ يَجْعَلُونَ الْعَقْلِيَّاتِ هِيَ الْخَبَرِيَّاتِ وَالْأَمْرِيَّاتِ جَمِيعًا كَالْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَهَا وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهَا تَخْلِيطٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الْخَبَرِيَّاتِ كَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِطَرِيقَةِ الْأَعْرَاضِ وَاسْتِلْزَامِهَا لِلْأَجْسَامِ وَهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ " . وَجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ هُمْ أَعْظَمُ نَفْيًا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ مَعَ الصِّفَاتِ وَهُمْ رُءُوسُ الْمُجَبِّرَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَافَقَتْهُمْ فِي الْجَبْرِ ; لَكِنْ نَازَعُوهُمْ نِزَاعًا لَفْظِيًّا فِي إثْبَاتِ الْكَسْبِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ - وَهِيَ الْعِلْمُ بِمَا يَجِبُ لِلرَّبِّ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ - هِيَ أَعْظَمُ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا وَأَنَّهُمْ بَرَزُوا بِهَا عَلَى الصَّحَابَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُعَلِّمْهَا الصَّحَابَةَ : إمَّا لِكَوْنِهِ وَكَّلَهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأُمَّةِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهَا بِالْجِهَادِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَلِّغُوهُ وَلَمْ يَشْغَلْهُمْ بِالْأَدِلَّةِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ . وَهَذِهِ هِيَ " الْأُصُولُ الْعَقْلِيَّةُ " الَّتِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا هُمْ وَمَنْ يُوَافِقُهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي تَبَعًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ وَأَتْبَاعُهُ يُنَاقِضُونَ عَبْدَ الْجَبَّارِ وَأَمْثَالَهُ كَمَا نَاقَضَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ أَبَا عَلِيٍّ وَأَبَا الْقَاسِمِ . وَكُلُّ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الدِّينِ وَيُقَدِّمُونَهَا عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُعَظِّمُهُ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَالْفُقَرَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ مِنْ الْخَوَارِقِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَيُفَضِّلُونَهَا عَلَى الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعِبَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الَّتِي مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَتِلْكَ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ حَتَّى يَقُولُوا : نِهَايَةُ الصُّوفِيِّ ابْتِدَاءُ الْفَقِيهِ وَنِهَايَةُ الْفَقِيهِ ابْتِدَاءُ الْمُوَلَّهِ . وَكَذَلِكَ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " يَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ فَالْأُولَى وَهِيَ أَهْوَنُهَا عِنْدَهُمْ تُوَافِقُ الشَّرْعَ فِي الظَّاهِرِ وَالثَّانِيَةُ قَدْ تُوَافِقُ الشَّرْعَ وَقَدْ لَا تُوَافِقُ وَالثَّالِثَةُ فِي الْأَغْلَبِ تُخَالِفُ ; لَا سِيَّمَا فِي " التَّوْحِيدِ " و " الْفَنَاءِ " و " الرَّجَاءِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوهُ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَهُمْ مِمَّا وَافَقُوا فِيهِ الرُّسُلَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يُفَضِّلُ نَوَافِلَهُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَهَذَا كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ