مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ . وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ كَانُوا إذَا سُئِلُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْفُوا مَعْنَاهُ بَلْ يُثْبِتُونَ الْمَعْنَى وَيَنْفُونَ الْكَيْفِيَّةَ كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى فَقَالَ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَكَذَلِكَ رَبِيعَةُ قَبْلَهُ . وَقَدْ تَلَقَّى النَّاسُ هَذَا الْكَلَامَ بِالْقَبُولِ فَلَيْسَ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ يُنْكِرُهُ . وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ كَمَا أَنَّ سَائِرَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مَعْلُومٌ وَلَكِنَّ الْكَيْفِيَّةَ لَا تُعْلَمُ وَلَا يَجُوزُ السُّؤَالُ عَنْهَا لَا يُقَالُ كَيْفَ اسْتَوَى . وَلَمْ يَقُلْ مَالِكٌ الْكَيْفُ مَعْدُومٌ وَإِنَّمَا قَالَ الْكَيْفُ مَجْهُولٌ . وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ غَيْرَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ لَا تَخْطُرُ كَيْفِيَّتُهُ بِبَالِ وَلَا تَجْرِي مَاهِيَّتُه فِي مَقَالٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ لَهُ كَيْفِيَّةٌ وَلَا مَاهِيَّةٌ . فَإِنْ قِيلَ : مَعْنَى قَوْلِهِ : " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ " أَنَّ وُرُودَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ مَعْلُومٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعْرِفَةَ مَعَانِيهَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ . قِيلَ : هَذَا ضَعِيفٌ ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَإِنَّ السَّائِلَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ تَلَا الْآيَةَ . وَأَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ : ذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا إخْبَارُ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ ; وَإِنَّمَا قَالَ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ . فَأَخْبَرَ عَنْ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ الْجُمْلَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : " وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ " وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ مَجْهُولٌ أَوْ تَفْسِيرُ الِاسْتِوَاءِ مَجْهُولٌ أَوْ بَيَانُ الِاسْتِوَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَمْ يَنْفِ إلَّا الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِوَاءِ لَا الْعِلْمَ بِنَفْسِ الِاسْتِوَاءِ . وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ لَوْ قَالَ فِي قَوْلِهِ : { إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } كَيْفَ يَسْمَعُ وَكَيْفَ يَرَى ؟ لَقُلْنَا : السَّمْعُ وَالرُّؤْيَا مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَلَوْ قَالَ : كَيْفَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا ؟ لَقُلْنَا : التَّكْلِيمُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْلُومٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَأَنَّ ذَاتَه فَوْقَ ذَاتِ الْعَرْشِ لَا يُنْكِرُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَلَا يَرَوْنَ هَذَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ . ثُمَّ السَّلَفُ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَفْسِيرِهِ بِمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ . قَالَ بَعْضُهُمْ : ارْتَفَعَ عَلَى الْعَرْشِ عَلَا عَلَى الْعَرْشِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ عِبَارَاتٍ أُخْرَى وَهَذِهِ ثَابِتَةٌ عَنْ السَّلَفِ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَعْضَهَا فِي آخِرِ كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الجهمية " . وَأَمَّا التَّأْوِيلَاتُ الْمُحَرَّفَةُ مِثْلُ اسْتَوْلَى وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهِيَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ لَمَّا ظَهَرَتْ الجهمية . وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ لَيْسَ فِي خُصُوصِ الصِّفَاتِ ; بَلْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ يَا عَائِشَةُ إذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرِيهِمْ } وَهَذَا عَامٌّ . وَقِصَّةُ صَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ أَشْهَرِ الْقَضَايَا فَإِنَّهُ بَلَّغَهُ أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ حَتَّى رَآهُ عُمَرُ فَسَأَلَ عُمَرَ عَنْ { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } فَقَالَ : مَا اسْمُك ؟ قَالَ : عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ فَقَالَ : وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ وَضَرَبَهُ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ . وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا أَلَحَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَقُولُ مَا أَحْوَجَك أَنْ يُصْنَعَ بِك كَمَا صَنَعَ عُمَرُ بِصَبِيغِ . وَهَذَا لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ غَرَضَ السَّائِلِ ابْتِغَاءُ الْفِتْنَةِ لَا الِاسْتِرْشَادُ وَالِاسْتِفْهَامُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } فَعَاقَبُوهُمْ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ الْفَاسِدِ كَاَلَّذِي يُعَارِضُ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : { لَا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ } فَإِنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ الشَّكَّ فِي قُلُوبِهِمْ . وَمَعَ ابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ ابْتِغَاءُ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَكَانَ مَقْصُودُهُمْ مَذْمُومًا وَمَطْلُوبُهُمْ مُتَعَذِّرًا مِثْلَ أُغْلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ " الْمَعْنَى " و " التَّأْوِيلِ " أَنَّ صَبِيغًا سَأَلَ عُمَرَ عَنْ ( الذَّارِيَاتِ وَلَيْسَتْ مِنْ الصِّفَاتِ وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِي تَفْسِيرِهَا مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَعَ ابْنِ الْكِوَاءِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْهَا كَرِهَ سُؤَالَهُ لِمَا رَآهُ مِنْ قَصْدِهِ ; لَكِنْ عَلِيٌّ كَانَتْ رَعِيَّتُهُ مُلْتَوِيَةً عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُطَاعًا فِيهِمْ طَاعَةَ عُمَرَ حَتَّى يُؤَدِّبَهُ . و ( الذَّارِيَاتُ و ( الْحَامِلَاتُ و ( الْجَارِيَاتُ و ( الْمُقَسِّمَاتُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الرِّيَاحَ وَالسَّحَابَ وَالنُّجُومَ وَالْمَلَائِكَةَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ ذِكْرُ الْمَوْصُوفِ . وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ هُوَ أَعْيَانُ الرِّيَاحِ وَمَقَادِيرُهَا وَصِفَاتُهَا وَمَتَى تَهُبُّ وَأَعْيَانُ السَّحَابِ وَمَا تَحْمِلُهُ مِنْ الْأَمْطَارِ وَمَتَى يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَكَذَلِكَ فِي ( الْجَارِيَاتِ و ( الْمُقَسِّمَاتِ فَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( إنَّا و ( نَحْنُ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْجَمْعِ كَمَا اتَّبَعَهُ النَّصَارَى ; فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ; لَكِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْمَعَانِي ; بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ : مِثْلِ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ فَإِنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَمَعَانِي الْأَسْمَاءِ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَكَذَا الِاسْمُ الَّذِي لَفْظُهُ الْجَمْعُ . وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ فَحَقِيقَةُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ . وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ . فَإِذَا قَالُوا مَا حَقِيقَةُ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ قِيلَ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَمَا أَحْسَنَ مَا يُعَادُ التَّأْوِيلُ إلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ } قِيلَ : أَمَّا تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَذَاكَ يَعْلَمُهُ وَاللَّامُ هُنَا لِلتَّأْوِيلِ الْمَعْهُودِ لَمْ يَقُلْ : تَأْوِيلَ كُلِّ الْقُرْآنِ فَالتَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ هُوَ تَأْوِيلُ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ مَخْبَرِهَا إلَّا اللَّهُ وَالتَّأْوِيلُ الْمَعْلُومُ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يَعْلَمُ الْعِبَادُ تَأْوِيلَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } وَقَوْلِهِ : { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } فَإِنَّ الْمُرَادَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ الَّذِي أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي " يُنْتَظَرُ " " وَيَأْتِي " و " لَمَّا يَأْتِهِمْ " . وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَذَاكَ فِي الْأَمْرِ . وَتَأْوِيلُ الْخَبَرِ عَنْ اللَّهِ وَعَمَّنْ مَضَى إنْ أُدْخِلَ فِي التَّأْوِيلِ لَا يُنْتَظَرُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ ؟