مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
فَصْلٌ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمُحْدَثَةُ الْمُجْمَلَةُ النَّافِيَةُ مِثْلَ لَفْظِ " الْمُرَكَّبِ " و " الْمُؤَلَّفِ " و " الْمُنْقَسِمِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ صَارَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ نَفْيَ شَيْءٍ مِمَّا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَبَّرَ بِهَا عَنْ مَقْصُودِهِ فَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مُرَادَهُ أَنَّ الْمُرَادَ تَنْزِيهُ الرَّبِّ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ إثْبَاتُ أَحَدِّيَّتِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ وَيَكُونُ قَدْ أَدْخَلَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَا رَآهُ هُوَ مَنْفِيًّا وَعَبَّرَ عَنْهُ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ وَضْعًا لَهُ وَاصْطِلَاحًا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ هُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَلَا مِنْ لُغَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ ثُمَّ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ مُسَمَّى الْأَحَدِ وَالصَّمَدِ وَالْوَاحِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَجْعَلُ مَا نَفَاهُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي أَثْبَتّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ . وَاسْمُ " التَّوْحِيدِ " اسْمٌ مُعَظَّمٌ جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ " وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ فَإِذَا جَعَلَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي نَفَاهَا مِنْ التَّوْحِيدِ ظَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مُخَالَفَةَ مُرَادِهِ لِمُرَادِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُسَمِّي طَائِفَتَهُ الْمُوَحِّدِينَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ تَوْحِيدًا . وَطَائِفَتُهُمْ الْمُوَحِّدِينَ وَيُسَمُّونَ عِلْمَهُمْ عِلْمَ التَّوْحِيدِ كَمَا تُسَمِّي الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ نَفْيَ الْقَدَرِ عَدْلًا وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ العدلية وَأَهْلَ الْعَدْلِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْبِدَعِ كَثِيرٌ جِدًّا يُعَبَّرُ بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ مَعَانٍ مُخَالِفَةٍ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَكُونُ أَصْحَابُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ تَلَقَّوْهَا ابْتِدَاءً عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَنْ شُبَهٍ حَصَلَتْ لَهُمْ وَأَئِمَّةٍ لَهُمْ وَجَعَلُوا التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةً لَهُمْ وَعُمْدَةً لَهُمْ لِيَظْهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مُتَابِعُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مُخَالِفُونَ لَهُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُخَالِفٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَعْرِفَةُ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ يَعْرِفُوا لُغَةَ الْقُرْآنِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ وَمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَانِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمَّا خَاطَبَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَرَّفَهُمْ مَا أَرَادَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَكَانَتْ مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَكْمَلَ مِنْ حِفْظِهِمْ لِحُرُوفِهِ وَقَدْ بَلَّغُوا تِلْكَ الْمَعَانِيَ إلَى التَّابِعِينَ أَعْظَمَ مِمَّا بَلَّغُوا حُرُوفَهُ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْأَحَدِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ يَعْرِفُونَ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنُ يَحْفَظُهُ مِنْهُمْ أَهْلُ التَّوَاتُرِ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ وَصْفِ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَحَدٌ وَوَاحِدٌ وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ إلَهَكُمْ وَاحِدٌ وَمَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ أَصْلُ الدِّينِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا دَعَا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْخَلْقَ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُقَاتِلُهُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا أَمَرَ رُسُلَهُ أَنْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِهِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا دَعَا الْخَلْقَ إلَى أَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ بَعْد الْهِجْرَةِ قَالَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : إنَّك تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } . فَقَالَ لِمُعَاذِ : لِيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَمَعَ هَذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَهُودًا فَإِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا كَثِيرِينَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُعَاذًا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } . ( فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا أَرَادَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ هُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ ثُمَّ مَعْرِفَةُ مَا قَالَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ لِيَنْظُرَ الْمَعَانِيَ الْمُوَافِقَةَ لِلرَّسُولِ وَالْمَعَانِيَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا . وَالْأَلْفَاظُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَوْعٌ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَيَعْرِفَ مَعْنَى الْأَوَّلِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَصْلَ وَيَعْرِفُ مَا يَعْنِيهِ النَّاسُ بِالثَّانِي وَيُرَدَّ إلَى الْأَوَّلِ . هَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الْهُدَى وَالسُّنَّةِ وَطَرِيقُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ بِالْعَكْسِ يَجْعَلُونَ الْأَلْفَاظَ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَمَعَانِيهَا هِيَ الْأَصْلَ وَيَجْعَلُونَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَبَعًا لَهُمْ فَيَرُدُّونَهَا بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ إلَى مَعَانِيهِمْ وَيَقُولُونَ : نَحْنُ نُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ يَعْنُونَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ مَعْنًى بِعَقْلِهِمْ وَرَأْيِهِمْ ثُمَّ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ بِمَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ . وَقَالَ : يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمَلِ وَالْقِيَاسِ وَهَذِهِ الطَّرِيقُ يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ أَهْلُ الْبِدَعِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ فَهِيَ طَرِيقُ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ دَخَلَ فِي التَّأْوِيلِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ . وَأَمَّا حُذَّاقُ الْفَلَاسِفَةِ فَيَقُولُونَ : إنَّ الْمُرَادَ بِخِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ أَنْ يُخَيَّلَ إلَى الْجُمْهُورِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحَ دُنْيَاهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْحَقِّ . قَالُوا : وَلَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْحَقِّ وَتَعْرِيفَهُ بَلْ مَقْصُودُهُ أَنْ يُخَيَّلَ إلَيْهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَهُ . وَيَجْعَلُونَ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ قُوَّةَ التَّخْيِيلِ . فَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَيِّنْ وَلَمْ يُفَهِّمْ ; بَلْ وَلَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ . وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ هَلْ كَانَ يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كَانَ يَعْلَمُهَا ; لَكِنْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ بَيَانُهَا . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَجْعَلُونَ الرَّسُولَ أَفْضَلَ مِنْ الْفَيْلَسُوفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ مَا كَانَ يَعْرِفُهَا أَوْ مَا كَانَ حَاذِقًا فِي مَعْرِفَتِهَا وَإِنَّمَا كَانَ يَعْرِفُ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْفَيْلَسُوفَ أَكْمَلَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ أَكْمَلُ مِنْ الْعِلْمِيَّةِ فَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ خَبَرَ اللَّهِ وَخَبَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فِيهِ التَّخْيِيلُ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّخْيِيلَ وَلَكِنْ قَصَدَ مَعْنًى يُعْرَفُ بِالتَّأْوِيلِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْل الْكَلَامِ الجهمية يُوَافِقُ أُولَئِكَ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبُوحَ بِالْحَقِّ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ فَخَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا يُخَيَّلُ لَهُمْ كَمَا يَقُولُونَ : إنَّهُ لَوْ قَالَ : إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ وَلَا يُشَارُ إلَيْهِ وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا لَنَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْهُ وَقَالُوا هَذَا لَا يُعْرَفُ قَالُوا فَخَاطَبَهُمْ بِالتَّجْسِيمِ حَتَّى يُثْبِتَ لَهُمْ رَبًّا يَعْبُدُونَهُ وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ التَّجْسِيمَ بَاطِلٌ وَهَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَشْهُورِينَ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ مَذْهَبَ النفاة هُوَ الصَّحِيحُ وَاحْتَاجُوا أَنْ يَعْتَذِرُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِثْبَاتِ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ . وَتَارَةً يَقُولُونَ . إنَّمَا عَدَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ لِيَجْتَهِدُوا فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفِهِ وَيَجْتَهِدُوا فِي تَأْوِيلِ أَلْفَاظِهِ فَتَعْظُمَ أُجُورُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اجْتِهَادُهُمْ فِي عَقْلِيَّاتِهِمْ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ . وَلَا يَقُولُونَ إنَّهُ قَصَدَ بِهِ إفْهَامَ الْعَامَّةِ الْبَاطِلَ كَمَا يَقُولُ أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ . وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ النفاة مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ حَتَّى ابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ . وَأَبُو حَامِدٍ وَابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ وَأَمْثَالُهُمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ . وَأَبُو حَامِدٍ إنَّمَا ذَمَّ التَّأْوِيلَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَصَنَّفَ " إلْجَامَ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ " مُحَافَظَةً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهُ رَأَى مَصْلَحَةَ الْجُمْهُورِ لَا تَقُومُ إلَّا بِإِبْقَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ يَرَى مَا ذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ " الْمُضْنُونَ بِهَا " أَنَّ النَّفْيَ هُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . فَلَمْ يَجْعَلُوا مَقْصُودَهُ بِالْخِطَابِ الْبَيَانَ وَالْهُدَى كَمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ وَنَبِيَّهُ حَيْثُ قَالَ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَثُمَّ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ كَثُرَتْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ يَقُولُونَ : مَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مَعَانِيَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ كَآيَاتِ الصِّفَاتِ ; بَلْ لَازِمُ قَوْلِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَلَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا وَهَؤُلَاءِ مَسَاكِينُ لَمَّا رَأَوْا الْمَشْهُورَ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ عِنْدَ قَوْلِهِ . { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَافَقُوا السَّلَفَ وَأَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ ; لَكِنْ ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَتَفْسِيرِهِ أَوْ هُوَ التَّأْوِيلُ الِاصْطِلَاحِيُّ الَّذِي يَجْرِي فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ لِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ فَهُمْ قَدْ سَمِعُوا كَلَامَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَصَارَ لَفْظُ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمْ هَذَا مَعْنَاهُ . وَلَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } ظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ فِي الْقُرْآنِ مَعْنَاهُ هُوَ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَى هَذِهِ النُّصُوصِ إلَّا اللَّهُ لَا جِبْرِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا غَيْرُهُمَا ; بَلْ كُلٌّ مِنْ الرَّسُولَيْنِ عَلَى قَوْلِهِمْ يَتْلُو أَشْرَفَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى ذَلِكَ أَصْلًا ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَذُمُّونَ وَيُبْطِلُونَ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا جَيِّدٌ ; لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ عَنَوْا بِظَوَاهِرِهَا مَا يَظْهَرُ مِنْهَا مِنْ الْمَعَانِي كَانَ هَذَا مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِمْ إنَّ لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنْ عَنَوْا بِظَوَاهِرِهَا مُجَرَّدَ الْأَلْفَاظِ : كَانَ مَعْنَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَهَا بَاطِنٌ يُخَالِفُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَهُوَ التَّأْوِيلُ وَذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَفِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ بِإِجْرَائِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهِمْ مِنْ يُرِيدُ الْأَوَّلَ وَعَامَّتُهُمْ يُرِيدُونَ بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْنَى الثَّالِثَ وَقَدْ يُرِيدُونَ بِهِ الثَّانِيَ فَإِنَّهُ أَحْيَانًا قَدْ يُفَسَّرُ النَّصُّ بِمَا يُوَافِقُ ظَاهِرَهُ وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا [ أَنَّهُ ] لَيْسَ مِنْ التَّأْوِيلِ الثَّالِثِ فَيَأْبَوْنَ ذَلِكَ وَيَكْرَهُونَ تَدَبُّرَ النُّصُوصِ وَالنَّظَرَ فِي مَعَانِيهَا أَعْنِي النُّصُوصَ الَّتِي يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَأْوِيلَهَا إلَّا اللَّهُ . ثُمَّ هُمْ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ بِحَسَبِ عَقَائِدِهِمْ فَإِنْ كَانُوا مِنْ الْقَدَرِيَّةِ قَالُوا : النُّصُوصُ الْمُثْبِتَةُ لِكَوْنِ الْعَبْدِ فَاعِلًا مُحْكَمَةٌ وَالنُّصُوصُ الْمُثْبِتَةُ لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ مُرِيدًا لِكُلِّ مَا وَقَعَ نُصُوصٌ مُتَشَابِهَةٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إلَّا اللَّهُ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَتَأَوَّلُهَا فَإِنَّ عَامَّةَ الطَّوَائِفِ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ مَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَتَأَوَّلُهُ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الصفاتية الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهَا بِالْعَقْلِ دُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخَّرِي الكلابية كَأَبِي الْمَعَالِي فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِ قَالُوا عَنْ النُّصُوصِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلصِّفَاتِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ عِنْدَهُمْ بِالْعَقْلِ هَذِهِ نُصُوصٌ مُتَشَابِهَةٌ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إلَّا اللَّهُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ وَحَالَانِ : تَارَةً يَتَأَوَّلُ وَيُوجِبُ التَّأْوِيلَ أَوْ يُجَوِّزُهُ وَتَارَةً يُحَرِّمُهُ كَمَا يُوجَدُ لِأَبِي الْمَعَالِي وَلِابْنِ عَقِيلٍ وَلِأَمْثَالِهِمَا مِنْ اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ .