مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَأَمَّا مُتَأَخِّرُو الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ . قَالَ : فَمَعْنَى التَّفْسِيرِ هُوَ التَّنْوِيرُ وَكَشْفُ الْمُغْلَقِ مِنْ الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ وَالتَّأْوِيلُ : صَرْفُ الْآيَةِ إلَى مَعْنًى تَحْتَمِلُهُ يُوَافِقُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَتَكَلَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إلَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ . هُوَ الْمَعْنَى الثَّالِثُ الْمُتَأَخِّرُ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ يَقُولُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ؟ أَمْ يَخْتَلِفَانِ ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إلَى الْعَرَبِيَّةِ : إلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إلَى الْفِقْهِ : إلَى اخْتِلَافِهِمَا فَقَالُوا : التَّفْسِيرُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ عَنْ مَقَامِ الْخَفَاءِ إلَى مَقَامِ التَّجَلِّي وَالتَّأْوِيلُ : نَقْلُ الْكَلَامِ عَنْ وَضْعِهِ إلَى مَا يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِهِ إلَى دَلِيلٍ لَوْلَاهُ مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِك آلَ الشَّيْءُ إلَى كَذَا . أَيْ صَارَ إلَيْهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَذْكُرُونَ لِلتَّأْوِيلِ إلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ فَلَا يَذْكُرُونَهُ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي يَئُولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا الْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ اللَّفْظِ بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ التَّأْوِيلِ مُخَالِفًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ خِلَافَ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ : إنْشَاءٌ وَإِخْبَارٌ . فَالْإِنْشَاءُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ نَفْسُ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَحْظُورِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } . قَالَ ابْن عيينة : السُّنَّةُ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ لَمَّا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ فِي { نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ } قَالَ : وَالْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ . يَقُولُ : هُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ; وَمَا نَهَى عَنْهُ فَيَعْرِفُونَ أَعْيَانَ الْأَفْعَالِ الْمَوْجُودَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا وَأَعْيَانَ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا . وَتَفْسِيرُ كَلَامِهِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ مَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ ; بَلْ هُوَ بَيَانُهُ وَشَرْحُهُ وَكَشْفُ مَعْنَاهُ . فَالتَّفْسِيرُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ : يُفَسَّرُ الْكَلَامُ بِكَلَامٍ يُوَضِّحُهُ . وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَهُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْخَبَرُ كَإِخْبَارِ الرَّبِّ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِخْبَارِهِ عَمَّا ذِكْرِهِ لِعِبَادِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ : { يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { انْطَلِقُوا إلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } فَإِنَّ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ لَمَّا يَأْتِهِمْ بَعْدُ وَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ . فَالتَّفْسِيرُ هُوَ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهِ وَالتَّأْوِيلُ هُوَ نَفْسُ مَا وُعِدُوا بِهِ إذَا أَتَاهُمْ فَهُمْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ; وَقَدْ يُحِيطُ النَّاسُ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِيطُ بِعِلْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ وَفِي الْحَدِيثِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } الْآيَةُ : قَالَ : إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ } قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } قَالَ بَعْضُهُمْ : مَوْضِعُ قَرَارٍ وَحَقِيقَةٌ وَمُنْتَهًى يَنْتَهِي إلَيْهِ فَيُبَيِّنُ حَقَّهُ مِنْ بَاطِلِهِ وَصِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : لِكُلِّ خَبَرٍ يُخْبِرُ بِهِ اللَّهُ وَقْتٌ وَمَكَانٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرٍ خَلْفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ . وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ : لِكُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ حَقِيقَةٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَسَتَعْرِفُونَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَسَوْفَ يَبْدُو لَكُمْ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ ; فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ الْخَيْرِ جُوزِيَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ سُوءٍ جُوزِيَ بِهِ فِي النَّارِ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . وَمَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ : أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهَا هُوَ النَّبَأُ الَّذِي لَهُ الْمُسْتَقَرُّ فَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ نَفْسَ الْجَزَاءِ هُوَ نَفْسُ النَّبَأِ . وَعَنْ السدي قَالَ : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } أَيْ مِيعَادٌ وَعَدَتْكُمُوهُ فَسَيَأْتِيكُمْ حَتَّى تَعْرِفُونَهُ وَعَنْ عَطَاءٍ : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } تُؤَخَّرُ عُقُوبَتُهُ لِيَعْمَلَ ذَنْبَهُ " فَإِذَا عَمِلَ ذَنْبَهُ عَاقَبَهُ أَيْ لَا يُعَاقِبُ بِالْوَعِيدِ حَتَّى يَفْعَلَ الذَّنْبَ الَّذِي تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ . وَمِنْهُ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ فِي آيَاتٍ : هَذِهِ ذَهَبَ تَأْوِيلُهَا وَهَذِهِ لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا مِثْلَ مَا رَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُرِئَتْ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةُ . فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِهَا قُولُوهَا مَا قُبِلَتْ مِنْكُمْ فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ حَيْثُ نَزَلَ فَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرُوا وَانْهَوْا فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤُ وَنَفْسُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ . فَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَتَأْوِيلَ الْخَبَرِ فَهَذِهِ الْآيَةُ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْحِسَابِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْخَبَرِ هُوَ وُجُودُ الْمُخْبَرِ بِهِ وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْآيَةُ الَّتِي مَضَى تَأْوِيلُهَا قَبْلَ نُزُولِهَا هِيَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ : يَقَعُ الشَّيْءُ فَيَذْكُرُهُ اللَّهُ كَمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ وَهِيَ وَإِنَّ مَضَى تَأْوِيلُهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ وَمَعْنَاهَا ثَابِتٌ فِي نَظِيرِهَا وَمِنْ هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ : خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } . وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ ; فَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْأَمْرِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ تَأْوِيلِهِ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ; لَكِنْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي الْأَمْرِ مُتَشَابِهًا فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } قَدْ يُرَادُ بِهِ مِنْ الْخَبَرِ فَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْخَبَرِ مِثْلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْمَاءِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا تَشَابُهٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَمَعَ هَذَا فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ مُخَالِفَةٌ لِحَقِيقَةِ هَذَا وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ لَا نَعْلَمُهَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } فَهَذَا الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَعْلَمُهُ نَفْسٌ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ وَقْتُ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَشْرَاطُهَا وَكَذَلِكَ كَيْفِيَّاتُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْحِسَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ حَتَّى تَعْلَمَهُ الْمَلَائِكَةُ وَلَا لَهُ نَظِيرٌ مُطَابِقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى يُعْلَمَ بِهِ فَهُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ كَيْفِيَّاتِ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : تَلَقَّوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُمَا بِالْقَبُولِ لَمَّا قِيلَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَقَالَ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . هَذَا لَفْظُ مَالِكٍ . فَأَخْبَرَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَهَذَا تَفْسِيرُ اللَّفْظِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَيْفَ مَجْهُولٌ وَهَذَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا . وَكَذَلِكَ سَائِرُ السَّلَفِ كَابْنِ الماجشون وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا يُبَيِّنُونَ أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَالْكَيْفُ هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَأَمَّا نَفْسُ الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فَيَعْلَمُهُ النَّاسُ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مَعْنَى السَّمْعِ وَمَعْنَى الْبَصَرِ " وَأَنَّ مَفْهُومَ هَذَا لَيْسَ هُوَ مَفْهُومَ هَذَا وَيَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بَلْ الرُّوحُ الَّتِي فِيهِمْ يَعْرِفُونَهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّتَهَا كَذَلِكَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ . وَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى عَرْشِهِ وَارْتِفَاعَهُ عَلَيْهِ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ السَّلَفُ قَبْلَهُمْ وَهَذَا مَعْنًى مَعْرُوفٌ مِنْ اللَّفْظِ لَا يُحْتَمَلُ فِي اللُّغَةِ غَيْرُهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ . وَمَنْ قَالَ : الِاسْتِوَاءُ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فَقَدْ أَجْمَلَ كَلَامَهُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : اسْتَوَى فَقَطْ . وَلَا يَصِلُونَهُ بِحَرْفِ وَهَذَا لَهُ مَعْنًى . وَيَقُولُونَ : اسْتَوَى عَلَى كَذَا وَلَهُ مَعْنًى وَاسْتَوَى إلَى كَذَا وَلَهُ مَعْنًى وَاسْتَوَى مَعَ كَذَا وَلَهُ مَعْنًى فَتَتَنَوَّعُ مَعَانِيهِ بِحَسَبِ صِلَاتِهِ . وَأَمَّا اسْتَوَى عَلَى كَذَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلُغَةِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ إلَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . قَالَ تَعَالَى : { فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } وَقَالَ { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } وَقَالَ : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } وَقَالَ : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } وَقَدْ { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ } { وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ لَمَّا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ } وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : عُلُوَّهُ عَلَى مَا اسْتَوَى عَلَيْهِ وَاعْتِدَالَهُ أَيْضًا . فَلَا يُسَمُّونَ الْمَائِلَ عَلَى الشَّيْءِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَد لَمَّا قَالَ : اسْتَوُوا . وَقَوْلُهُ : ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مهراق هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى كُرْسِيِّ مُلْكِهَا لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الِاسْتِيلَاءِ ; بَلْ اسْتِوَاءٌ مِنْهُ عَلَيْهَا ; إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ الَّذِي هُوَ الْخَلِيفَةُ قَدْ اسْتَوَى أَيْضًا عَلَى الْعِرَاقِ وَعَلَى سَائِرِ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ وَلَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ اسْتَوَى عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَسَائِرِ مَا فَتَحَهُ وَلَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ اسْتَوَى عَلَى الْيَمَنِ وَغَيْرهَا مِمَّا فَتَحَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي كَلَامِهِمْ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِوَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا قِيلَ فِيمَنْ اسْتَوَى بِنَفْسِهِ عَلَى بَلَدٍ ; فَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ كَمَا يُقَالُ جَلَسَ فُلَانٌ عَلَى السَّرِيرِ وَقَعَدَ عَلَى التَّخْتِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ . { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } وَقَوْلُهُ : { إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } . وَقَوْلُ الزمخشري وَغَيْرِهِ : اسْتَوَى عَلَى كَذَا بِمَعْنَى مَلَكَ " دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ . فَلَيْسَ لَهَا شَاهِدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى بَاطِلًا فِي اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْل خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنْ حِينِ خَلَقَ الْعَرْشَ مَالِكٌ لَهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِوَاءُ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَأَيْضًا فَهُوَ مَالِكٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ فَلَا يُخَصُّ الْعَرْشُ بِالِاسْتِوَاءِ وَلَيْسَ هَذَا كَتَخْصِيصِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } فَإِنَّهُ قَدْ يُخَصُّ لِعَظَمَتِهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيُقَالُ : رَبِّ الْعَرْشِ وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ فَمُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ فَلَا يُقَالُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كَمَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْعَرْشِ خَاصَّةً وَفِي كُلِّ شَيْءٍ عَامَّةً وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخَلْقِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَخُصُّ وَتَعُمُّ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } فَالِاسْتِوَاءُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَرْشِ لَا تُضَافُ إلَى غَيْرِهِ لَا خُصُوصًا وَلَا عُمُومًا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ صَوَابِ كَلَامِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِمْ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ لَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى . كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ المعافري . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ قُدُومَ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمُنَاظَرَتَهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَأَهْلُ السِّيرَةِ وَهُوَ مِنْ الْمَشْهُورِ بَلْ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَأَقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَلِمَ يُبَاهِلُوهُ وَصَدْرُ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ بِسَبَبِ مَا جَرَى ; وَلِهَذَا عَامَّتُهَا فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ ( أَنَّا و ( نَحْنُ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ فَاتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ وَتَرَكُوا الْمُحْكَمَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ وَهِيَ فِتْنَةُ الْقُلُوبِ بِالْكُفْرِ وَابْتِغَاءِ تَأْوِيلِ لَفْظِ ( إنَّا و ( نَحْنُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إنَّمَا تُقَالُ لِلْوَاحِدِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ إمَّا أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مَمَالِيكَ لَهُ . وَلِهَذَا صَارَتْ مُتَشَابِهَةً فَإِنَّ الَّذِي مَعَهُ شُرَكَاءُ يَقُولُ : فَعَلْنَا نَحْنُ كَذَا وَإِنَّا نَفْعَلُ نَحْنُ كَذَا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاَلَّذِي لَهُ مَمَالِيكُ وَمُطِيعُونَ يُطِيعُونَهُ - كَالْمَلِكِ - يَقُولُ : فَعَلْنَا كَذَا . أَيْ أَنَا فَعَلْت بِأَهْلِ مُلْكِي وَمِلْكِي وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُدَبِّرُ أَمْرَ الْعَالَمِ بِنَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ الَّتِي هِيَ رُسُلُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ مَنْ قَالَ : إنَّا وَنَحْنُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ مَا سِوَاهُ لَيْسَ لَهُ مُلْكٌ تَامٌّ وَلَا أَمْرٌ مُطَاعٌ طَاعَةً تَامَّةً فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يَقُولَ : ( إنَّا و ( نَحْنُ وَالْمُلُوكُ لَهُمْ شَبَهٌ بِهَذَا فَصَارَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ الْمُتَشَابِهِ مَعْنًى آخَرُ وَلَكِنَّ الَّذِي يُنْسَبُ لِلَّهِ مِنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ مَلَائِكَتِهِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَكَيْفَ يُدَبِّرُ بِهِمْ أَمْرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } فَهَذَا التَّأْوِيلُ لِهَذَا الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ عَلِمْنَا تَفْسِيرَهُ وَمَعْنَاهُ ; لَكِنْ لَمْ نَعْلَمْ تَأْوِيلَهُ الْوَاقِعَ فِي الْخَارِجِ ; بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ } فَإِنَّهَا آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَشَابُهٌ فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ لَيْسَ مِثْلَ ( إنَّا و ( نَحْنُ الَّتِي تُقَالُ لِمَنْ لَهُ شُرَكَاءُ وَلِمَنْ لَهُ أَعْوَانٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا . كَمَا قَالَ : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } وَقَالَ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } فَالْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِهِ هَذَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظِيرُهُ ثَابِتًا لِلَّهِ ; فَلِهَذَا صَارَ مُتَشَابِهًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } وَقَالَ : { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } وَقَالَ : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } وَقَالَ : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } فَهَذَا الِاسْتِوَاءُ كُلُّهُ يَتَضَمَّنُ حَاجَةَ الْمُسْتَوِي إلَى الْمُسْتَوَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ عَدِمَ مَنْ تَحْتَهُ لَخَرَّ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْعَرْشِ وَعَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشُ وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهُمْ إنَّمَا أَطَاقُوا حَمْلَ الْعَرْشِ لَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . فَصَارَ لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ مُتَشَابِهًا يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ مَعَانِي يُنَزَّهُ . اللَّهُ عَنْهَا . فَنَحْنُ نَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ الْعُلُوُّ وَالِاعْتِدَالُ ; لَكِنْ لَا نَعْلَمُ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا الرَّبُّ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ مِنْهُ إلَى الْعَرْشِ بَلْ مَعَ حَاجَةِ الْعَرْشِ وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَنَّا لَمْ نَعْهَدْ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا يَسْتَوِي عَلَى غَيْرِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ وَحَاجَةِ ذَلِكَ الْمُسْتَوَى عَلَيْهِ إلَى الْمُسْتَوِي فَصَارَ مُتَشَابِهًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ وَالْمَعْنَيَيْنِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَبَيْنَهُمَا قَدْرًا فَارِقًا هُوَ مُرَادٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ الْفَارِقَ الَّذِي امْتَازَ الرَّبُّ بِهِ فَصِرْنَا نَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ وَنَجْهَلُهُ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ هُوَ تَأْوِيلُهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ تَفْسِيرُهُ . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ : كَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ لَبَنًا إلَّا مَخْلُوقًا مِنْ مَاشِيَةٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَإِذَا بَقِيَ أَيَّامًا يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَلَا نَعْرِفُ عَسَلًا إلَّا مِنْ نَحْلٍ تَصْنَعُهُ فِي بُيُوتِ الشَّمْعِ الْمُسَدَّسَةِ فَلَيْسَ هُوَ عَسَلًا مُصَفًّى وَلَا نَعْرِفُ حَرِيرًا إلَّا مِنْ دُودِ الْقَزِّ وَهُوَ يَبْلَى وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِهَذِهِ لَا فِي الْمَادَّةِ وَلَا فِي الصُّورَةِ وَالْحَقِيقَةِ بَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ تُخَالِفُ حَقِيقَةَ هَذِهِ وَذَلِكَ هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ . لَكِنْ يُقَالُ : فَالْمَلَائِكَةُ قَدْ تَعْلَمُ هَذَا . فَيُقَالُ : هِيَ لَا تَعْلَمُ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَلَا تَعْلَمُ كُلَّ مَا فِي الْجَنَّةِ وَأَيْضًا فَمِنْ النِّعَمِ مَا لَا تَعْرِفُهُ الْمَلَائِكَةُ وَالتَّأْوِيلُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ . وَإِذَا قَدَّرْنَا أَنَّهَا تَعْرِفُ مَا لَا نَعْرِفُهُ فَذَاكَ لَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَهَا وَيَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلْآيَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ . مُتَشَابِهًا عِنْدَ هَذَا مَا لَا يَكُونُ مُتَشَابِهًا عِنْدَ هَذَا .