تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَمَضْمُونُ مَدْلُولَاتِهِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَفْسِيرَ الْمُحْكَمِ وَلَا تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ وَلَا تَأْوِيلَ ذَلِكَ . وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَضْلًا عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحْكَمِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ فِيهِ مِنْ السَّفْسَطَةِ وَالتَّلْبِيسِ مَا لَا يَكُونُ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا مَعْرِفَةٌ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَلَا بِالْعَقْلِيَّاتِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَمَدَحَ الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِهِ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَاَلَّذِينَ يَفْقَهُونَ وَيَعْقِلُونَ وَذَمَّ الَّذِينَ لَا يَفْقُهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَأَهْلَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ وَالْعِرْفَانَ وَالتَّحْقِيقَ وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالسَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ أَلْفَاظًا لَهُمْ مُجْمَلَةً مُتَشَابِهَةً تَتَضَمَّنُ حَقًّا وَبَاطِلًا يَجْعَلُونَهَا هِيَ الْأُصُولَ الْمَحْكَمَةَ وَيَجْعَلُونَ مَا عَارَضَهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَمَا يَتَأَوَّلُونَهُ بِالِاحْتِمَالَاتِ لَا يُفِيدُ فَيَجْعَلُونَ الْبَرَاهِينَ شُبُهَاتٍ وَالشُّبُهَاتِ بَرَاهِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : الْمُحْكَمُ مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيَانٍ وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَاجَ إلَى بَيَانٍ وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ : الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ مِنْ التَّأْوِيلِ وُجُوهًا وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْمُحْكَمُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ الَّذِي تَعْتَوِرُهُ التَّأْوِيلَاتُ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ فَجَمِيعُ الْأُمَّةِ سَلَفُهَا وَخَلَفُهَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَاتِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ هُمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا فِيهِ . وَالْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُمْ كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ وَيُرَجِّحُونَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْأَدِلَّةِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْأُصُولِيَّةِ والفروعية لَا يُعْرَفُ عَنْ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَالَ عَنْ نَصٍّ احْتَجَّ بِهِ مُحْتَجٌّ فِي مَسْأَلَةٍ : أَنَّ هَذَا لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ ذَلِكَ لَقِيلَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَإِذَا ادَّعَى فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ نَصَّهُ مُحْكَمٌ يَعْلَمُ مَعْنَاهُ وَأَنَّ النَّصَّ الْآخَرَ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ قُوبِلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى . وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِنَا : إنَّ مِنْ النُّصُوصِ مَا مَعْنَاهُ جَلِيٌّ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لَا يَقَعُ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وَمِنْهَا مَا فِيهِ خَفَاءٌ وَاشْتِبَاهٌ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ وَحِينَئِذٍ فَالْخِلَافُ فِي الْمُتَشَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ حُجَّتَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي الْمُتَشَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ . فَمَنْ قَالَ : إنْ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْمَنْسُوخُ فَمَعْنَى الْمَنْسُوخِ مَعْرُوفٌ وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة . والسدي وَغَيْرِهِمْ . وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة هُمْ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَمَعْلُومٌ قَطْعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمَنْسُوخِ ; وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَكَانَ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ يُنَاقِضُ ذَلِكَ النَّقْلَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ إنْ كَانَ هَذَا صِدْقًا وَإِلَّا تَعَارَضَ النَّقْلَانِ عَنْهُمْ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَأْثُورٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : الْمُحْكَمُ مَا عَلِمَ الْعُلَمَاءُ تَأْوِيلَهُ وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْعُلَمَاءِ إلَى مَعْرِفَتِهِ سَبِيلٌ كَقِيَامِ السَّاعَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا أُرِيدَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ هَذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ تَأْوِيلِهِ إلَّا اللَّهُ وَهَذَا حَقٌّ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ حَقَائِقُ مَا يُوجَدُ وَقِيل لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا قَدْ قَدَّمْنَاهُ وَذُكِرَ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَوْلِهِ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ . وَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ التَّفْسِيرُ وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى وَيُوقَفَ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ فَهَذَا خَطَأٌ قَطْعًا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَقُولُ مَا يُنَاقِضُهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَيُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الرِّسَالَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ لَمْ يَتَدَبَّرُوا لَوَازِمَهُ وَحَقِيقَتَهُ بَلْ أَطْلَقُوهُ وَكَانَ أَكْبَرُ قَصْدِهِمْ دَفْعَ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ لِلْمُتَشَابِهِ . وَهَذَا الَّذِي قَصَدُوهُ حَقٌّ وَكُلُّ مُسْلِمٍ يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ ; لَكِنْ لَا نَدْفَعُ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ آخَرَ وَلَا نَرُدُّ بِدْعَةً بِبِدْعَةِ وَلَا يُرَدُّ تَفْسِيرُ أَهْلِ الْبَاطِلِ لِلْقُرْآنِ بِأَنْ يُقَالَ : الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ تَفْسِيرَ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْقُرْآنِ فَفِي هَذَا مِنْ الطَّعْنِ فِي الرَّسُولِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ مَا قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ خَطَأِ طَائِفَةٍ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْعَاقِلُ لَا يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ يُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ لَيْسَتْ كَلَامًا تَامًّا مِنْ الْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ مَوْقُوفَةٌ وَلِهَذَا لَمْ تُعْرَبْ فَإِنَّ الْإِعْرَابَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْد الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَإِنَّمَا نُطِقَ بِهَا مَوْقُوفَةً كَمَا يُقَالُ : ا ب ت ث وَلِهَذَا تُكْتَبُ بِصُورَةِ الْحَرْفِ لَا بِصُورَةِ الِاسْمِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ فَإِنَّهَا فِي النُّطْقِ أَسْمَاءٌ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنْ النُّطْقِ بِالزَّايِ مِنْ زَيْدٍ قَالُوا : زا قَالَ : نَطَقْتُمْ بِالِاسْمِ وَإِنَّمَا النُّطْقُ بِالْحَرْفِ زَهِّ فَهِيَ فِي اللَّفْظِ أَسْمَاءٌ وَفِي الْخَطِّ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ ( الم لَا تُكْتَبُ أَلِفٌ لَامٌ مِيمٌ كَمَا يُكْتَبُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ - الم - حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ و لَامٌ حَرْفٌ و مِيمٌ حَرْفٌ } . وَالْحَرْفُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ يَتَنَاوَلُ الَّذِي يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ اسْمًا وَفِعْلًا وَحَرْفًا وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَقْسِيمِ الْكَلَامِ : اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ . فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْمَ حُرِّفَ وَالْفِعْلَ حُرِّفَ خُصَّ هَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يُطْلِقُ النُّحَاةُ عَلَيْهِ الْحَرْفَ أَنَّهُ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ وَهَذِهِ حُرُوفُ الْمَعَانِي الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْكَلَامُ . وَأَمَّا حُرُوفُ الْهِجَاءِ فَتِلْكَ إنَّمَا تُكْتَبُ عَلَى صُورَةِ الْحَرْفِ الْمُجَرَّدِ وَيُنْطَقُ بِهَا غَيْرَ مُعْرَبَةً وَلَا يُقَالُ فِيهَا مُعْرَبٌ وَلَا مَبْنِيٌّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقَالُ فِي الْمُؤَلِّفِ فَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كُلُّ مَا سِوَى هَذِهِ مُحْكَمٌ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا مَعْرِفَةَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُقَالُ : هَذِهِ الْحُرُوفُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي مَعْنَاهَا أَكْثَرُ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْرُوفًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا وَهِيَ الْمُتَشَابِهِ كَانَ مَا سِوَاهَا مَعْلُومُ الْمَعْنَى . وَهَذَا الْمَطْلُوبُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ آيَاتٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا يُعِدُّهَا آيَاتٍ الْكُوفِيُّونَ . وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الصَّحِيحُ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا أَيْضًا مُتَشَابِهٌ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ عَنْ الْيَهُودِ مِنْ طَلَبِ عِلْمِ الْمُدَدِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا اشْتَبَهَتْ مَعَانِيهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَكُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ وَيُبَيِّنُ مَعْنَاهُ . وَالْخَامِسُ : أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا تَكَرَّرَتْ أَلْفَاظُهُ قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ الْمُحْكَمُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فَفَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فِي قَصَصِهِمْ عِنْدَ التَّكْرِيرِ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ : { احْمِلْ فِيهَا } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { فَاسْلُكْ فِيهَا } وَقَالَ فِي عَصَا مُوسَى : { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ . { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ جَعَلَ الْمُتَشَابِهَ اخْتِلَافَ اللَّفْظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَمَا يَشْتَبِهُ عَلَى حَافِظِ الْقُرْآنِ هَذَا اللَّفْظُ بِذَاكَ اللَّفْظِ وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ يَتَشَابَهُ مَعْنَاهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَاشْتَبَهَ عَلَى الْقَارِئِ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ وَهَذَا التَّشَابُهُ لَا يَنْفِي مَعْرِفَةَ الْمَعَانِي بِلَا رَيْبٍ وَلَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَخْتَصُّونَ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ فَهَذَا الْقَوْلُ إنْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ حُجَّةً لَنَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَمْ يَضُرَّنَا . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إلَى بَيَانٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَد . وَالسَّابِعُ : أَنَّهُ مَا احْتَمَلَ وُجُوهًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّك لَا تَفْقَهُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى تَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ " كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ " فَالنَّظَائِرُ اللَّفْظُ الَّذِي اتَّفَقَ مَعْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرُ . وَالْوُجُوهِ : الَّذِي اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ كَمَا يُقَالُ الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ وَالْمُشْتَرِكَةُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَقَدْ قِيلَ : هِيَ نَظَائِرُ فِي اللَّفْظِ وَمَعَانِيهَا مُخْتَلِفَةٌ فَتَكُونُ كَالْمُشْتَرِكَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ هُوَ الْأَوَّل : وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ فِي مَعَانِي الْوُجُوهِ وَفِيمَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ وَمَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا فَعُلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعُلَمَاءَ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهِ وَعُلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ مِنْ الْقُرْآنِ مَا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالثَّامِنُ : أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ وَهَذَا أَيْضًا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ . وَالتَّاسِعُ : أَنَّهُ مَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ . وَالْعَاشِرُ : قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّ الْمُتَشَابِهَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهَا وَالْبَعْضُ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاس فِي مَعْنَاهُ إنَّمَا ذَمَّ السَّلَفُ مِنْهُ تَأْوِيلَاتِ الجهمية وَنَفَوْا عِلْمَ النَّاسِ بِكَيْفِيَّتِهِ : كَقَوْلِ مَالِكٍ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ وَبَيْنَ الْكَيْفِ الْمَجْهُولِ فَإِنْ سُمِّيَ الْكَيْفُ تَأْوِيلًا سَاغَ أَنْ يُقَالَ : هَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا . وَأَمَّا إذَا جَعَلَ مَعْرِفَةَ الْمَعْنَى وَتَفْسِيرَهُ تَأْوِيلًا كَمَا يَجْعَلُ مَعْرِفَةَ سَائِرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأْوِيلًا وَقِيلَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } بَلْ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ كَانَ عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وَقَوْلُهُ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } وَقَوْلُهُ : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَقَوْلُهُ : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } وَقَوْلُهُ : { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } وَقَوْلُهُ : { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَوْلُهُ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } وَقَوْلُهُ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَقَوْلُهُ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وَقَوْلُهُ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } وَقَوْلُهُ { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ . فَمَنْ قَالَ عَنْ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا وَعَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَمَاعَةِ : أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَلْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِ مَعْنَاهَا كَمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ وَقْتِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ أَلْفَاظًا لَا يَفْهَمُونَ لَهَا مَعْنًى كَمَا يَقْرَأُ الْإِنْسَانُ كَلَامًا لَا يَفْهَمُ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَى الْقَوْمِ وَالنُّقُولُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذَا كَمَا يَفْهَمُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ كُنْهُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِيطُ بِهِ الْعِبَادُ وَلَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ فَذَاكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا عَلَّمَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَإِذَا عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ مَوْجُودٌ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ . وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْكَيْفِيَّةِ لَا يَنْفِي الْعِلْمَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ ; بَلْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الرَّبِّ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ وَبَيْنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ وَتَصَوُّرَ ذَلِكَ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ الْمُرَادَةِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ . فَالْكَلَامُ لَفْظٌ لَهُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ وَيُكْتَبُ ذَلِكَ اللَّفْظُ بِالْخَطِّ فَإِذَا عُرِفَ الْكَلَامُ وَتُصُوِّرَ مَعْنَاهُ فِي الْقَلْبِ وَعُبِّرَ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَهَذَا غَيْرُ الْحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَرَفَ الْأَوَّلَ عَرَفَ عَيْنَ الثَّانِي . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَبَرِهِ وَنَعْتِهِ وَهَذَا مَعْرِفَةُ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ فَالْمَعْرِفَةُ بِعَيْنِهِ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَجَّ وَالْمَشَاعِرَ كَالْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ وَمِنًى وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَيَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُ أَعْيَانَ الْأَمْكِنَةِ حَتَّى يُشَاهِدَهَا فَيَعْرِفُ أَنَّ الْكَعْبَةَ الْمُشَاهَدَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وَكَذَلِكَ أَرْضُ عَرَفَاتٍ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } وَكَذَلِكَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ الَّتِي بَيْنَ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ وَوَادِي مُحَسِّرٍ يُعْرَفُ أَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } . وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا قَدْ يَرَاهَا الرَّجُلُ وَيَذْكُرُ لَهُ الْعَابِرُ تَأْوِيلَهَا فَيَفْهَمُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ : مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَا وَيَكُونُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ إذَا كَانَ ذَلِكَ فَهُوَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا لَيْسَ تَأْوِيلُهَا نَفْسَ عِلْمِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَكَلَامِهِ وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ : { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } وَقَالَ : { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } فَقَدْ أَنْبَأَهُمَا بِالتَّأْوِيلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ التَّأْوِيلُ وَالْإِنْبَاءُ لَيْسَ هُوَ التَّأْوِيلُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمٌ بِالتَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ فَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُ مَتَى يَقَعُ هَذَا التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } الْآيَةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } فَنَحْنُ نَعْلَمُ مُسْتَقَرَّ نَبَإِ اللَّهِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا . وَلَا نَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ وَقَدْ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا وَقَدْرَهَا وَسَوَاءٌ فِي هَذَا تَأْوِيلِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ فَقَدْ عُرِفَ تَأْوِيلُهَا وَهُوَ وُقُوعُ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مَتَى يَقَعُ وَقَدْ لَا يَعْرِفُ صِفَتَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ فَإِذَا وَقَعَ عَرَفَ الْعَارِفُ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهُ قَدْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَوْ يَنْسَاهُ بَعْدَ مَا كَانَ عَرَفَهُ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } قَالَ الزُّبَيْرُ : لَقَدْ قَرَأْنَا هَذِهِ الْآيَةَ زَمَانًا وَمَا أَرَانَا مِنْ أَهْلِهَا وَإِذَا نَحْنُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ فِي كِتَابِهِ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَلَا يَفْقَهُ مَعْنَاهُ وَذَمَّ مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ وَمَدَحَ مَنْ يَسْمَعُهُ وَيَفْقَهُهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ } الْآيَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ : مَاذَا قَالَ الرَّسُولُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُتَقَدِّمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ مُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَالِمِينَ يَعْقِلُونَهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْقِلُهَا . وَالْأَمْثَالُ : هِيَ الْمُتَشَابِهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَهِيَ إلَى الْمُتَشَابِهِ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا لِمَا بَيْنَ الْمُمَثِّلِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ مِنْ التَّشَابُهِ وَعَقْلُ مَعْنَاهَا هُوَ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهَا الَّذِي يَعْرِفُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَرَفُوا مَعْنَى مَا أُنْزِلَ كَيْفَ عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ وَهَلْ يُحْكَمُ عَلَى كَلَامٍ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَبَشِّرْ عِبَادِي } { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وَقَالَ : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } { بَشِيرًا وَنَذِيرًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } . فَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنُ أَوْ أَكْثَرُهُ مِمَّا لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ الْمُتَدَبَّرُ الْمَعْقُولُ إلَّا بَعْضَهُ وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا سِيَّمَا عَامَّةُ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَهُ كَالْآيَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَنْ نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ عَنْ اللَّهِ وَتَسْمِيَتِهِ بِالرَّحْمَنِ فَكَانَ عَامَّةُ إنْكَارِهِمْ لِمَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَمَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ عَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ وَلَا يَفْقَهُهُ وَلَا يَتَدَبَّرُهُ . فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِعَقْلِ ذَلِكَ وَتَدَبُّرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } الْآيَةُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } الْآيَةُ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْفِ عَنْ غَيْرِهِ عِلْمَ شَيْءٍ إلَّا كَانَ مُنْفَرِدًا بِهِ كَقَوْلِهِ : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ } وَقَوْلِهِ : { لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } . فَيُقَالُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هَذَا بِحَسَبِ الْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ فَإِنْ كَانَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ قِيلَ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا عَلَّمَهُ بَعْضَ عِبَادِهِ ذَكَرَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَقَوْلِهِ : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا } إلَى قَوْلِهِ : { رَصَدًا } وَقَوْلِهِ : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } وَقَوْلِهِ : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } وَقَوْلِهِ : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { شَهِيدًا } وَقَوْلِهِ : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ } وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَأَوَّلُ النِّزَاعِ النِّزَاعُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ عَالِمًا بِمَعَانِيهِ امْتَنَعَ الرَّدُّ إلَيْهِ وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْ مُجْمَلِهِ وَأَنَّهَا تُفَسِّرُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ . وَقَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } . وَمِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ مُمْكِنًا وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا فِي نَفْسِهِ لَا يَحْكُمُ بِشَيْءِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ هُوَ الْحَاكِمُ بِالْكِتَابِ فَإِنَّ حُكْمَهُ فَصْلٌ يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْبَيَانِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : { إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أَيْ فَاصِلٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَكَيْفَ يَكُونُ فَصْلًا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ سَبِيلٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } فَذَمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ كَمَا ذَمَّ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ مَعْنَاهُ وَيُكَذِّبُونَ فَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } فَهَذَا أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } أَيْ تِلَاوَةً { وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } ثُمَّ ذَمَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ كُتُبًا يَقُولُونَ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَقَالَ : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { يَكْسِبُونَ } . وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَسْتَوْعِبُ أَهْلَ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : عَالِمٌ بِالْحَقِّ يَتَعَمَّدُ خِلَافَهُ وَالثَّانِي جَاهِلٌ مُتَّبِعٌ لِغَيْرِهِ . فَالْأَوَّلُونَ : يَبْتَدِعُونَ مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إمَّا أَحَادِيثُ مُفْتَرِيَاتٌ وَإِمَّا تَفْسِيرٌ وَتَأْوِيلٌ لِلنُّصُوصِ بَاطِلٌ وَيُعَضِّدُونَ ذَلِكَ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ الرِّيَاسَةُ وَالْمَأْكَلُ فَهَؤُلَاءِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهمْ مِنْ الْبَاطِلِ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ مِنْ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ إذَا عُورِضُوا بِنُصُوصِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَقِيلَ لَهُمْ هَذِهِ تُخَالِفُكُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي : الْجُهَّالُ . فَهَؤُلَاءِ الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ . فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أَيْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِمَعَانِي الْكِتَابِ يَعْلَمُونَهَا حِفْظًا وَقِرَاءَةً بِلَا فَهْمٍ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ وَقَوْلُهُ : { إلَّا أَمَانِيَّ } أَيْ تِلَاوَةً فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكِتَابِ إنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ السَّائِبِ لَا يُحْسِنُونَ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ وَلَا كِتَابَتَهُ إلَّا أَمَانِيَّ إلَّا مَا يُحَدِّثُهُمْ بِهِ عُلَمَاؤُهُمْ . وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَيْ تِلَاوَةً وَقِرَاءَةً عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ وَلَا يَقْرَءُونَهَا فِي الْكُتُبِ فَفِي هَذَا الْقَوْلِ جَعْلُ الْأَمَانِيِّ الَّتِي هِيَ التِّلَاوَةُ تِلَاوَةَ الْأُمِّيِّينَ أَنْفُسِهِمْ وَفِي ذَلِكَ جَعْلُهُ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ تِلَاوَةِ عُلَمَائِهِمْ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ وَالْآيَةُ تَعُمُّهُمَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } لَمْ يَقُلْ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ ثُمَّ قَالَ : { إلَّا أَمَانِيَّ } وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ . لَكِنْ يَعْلَمُونَ أَمَانِيَّ إمَّا بِقِرَاءَتِهِمْ لَهَا وَإِمَّا بِسَمَاعِهِمْ قِرَاءَةَ غَيْرِهِمْ وَإِنْ جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا كَانَ التَّقْدِيرُ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا عِلْمَ أَمَانِيَّ لَا عِلْمَ تِلَاوَةٍ فَقَطْ بِلَا فَهْمٍ وَالْأَمَانِيُّ جَمْعُ أَمْنِيَّةٍ وَهِيَ التِّلَاوَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قَالَ الشَّاعِرُ : تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ وَآخِرَهَا لَاقَى حَمَامَ المقادر وَالْأُمِّيُّونَ نِسْبَةً إلَى الْأُمَّة قَالَ بَعْضُهُمْ إلَى الْأُمَّةِ وَمَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ فَمَعْنَى الْأُمِّيِّ الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَقَدْ قَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ عَلَى خُلُقِ الْأُمَّةِ الَّتِي لَمْ تَتَعَلَّمْ فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ نِسْبَةً إلَى الْأُمَّةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَلِأَنَّهُ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ . وَالصَّوَابُ : أَنَّهُ نِسْبَةً إلَى الْأُمَّةِ ك