مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَعُبَّادُ الْبَشَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَشَرُ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ أَوْ أَمَرُوهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ كَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرَ وَكَقَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } و { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } وَقَالَ لِمُوسَى : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَكَاَلَّذِي آتَاهُ اللَّهُ نَصِيبًا مِنْ الْمُلْكِ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ : رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ وَكَالدَّجَّالِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَمَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَكَاَلَّذِينَ قَالُوا : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِيهِمْ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَبَدُوهُمْ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا عُبِدَتْ الْأَصْنَامُ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ . أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لهذيل وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غطيف بِالْجَرْفِ عِنْد سَبَإِ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لهمدان وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكُلَاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ . وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَكِلَا الْمُرْسَلِينَ بُعِثَ إلَى مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي صُوِّرَتْ عَلَى صُوَرِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَالْمَقْصُودُ بِعِبَادَتِهَا عِبَادَةُ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ . وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ مُبْتَدَعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَضُلَّالِهَا هَذَا غَايَةُ شِرْكِهِمْ فَإِنَّ النَّصَارَى يُصَوِّرُونَ فِي الْكَنَائِسِ صُوَرَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْإِنْسِ غَيْرِ عِيسَى وَأُمِّهِ : مِثْلَ مَارّ جرجس وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَدَادِيسِ وَيَعْبُدُونَ تِلْكَ الصُّوَرَ وَيَسْأَلُونَهَا وَيَدْعُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ لَهَا الْقَرَابِينَ وَيَنْذِرُونَ لَهَا النُّذُورَ وَيَقُولُونَ هَذِهِ تُذَكِّرُنَا بِأُولَئِكَ الصَّالِحِينَ . وَالشَّيَاطِينُ تُضِلُّهُمْ كَمَا كَانَتْ تُضِلُّ الْمُشْرِكِينَ : تَارَةً بِأَنْ يَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الَّذِي يُدْعَى وَيُعْبَدُ فَيَظُنُّ دَاعِيهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى أَوْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ صَوَّرَ مَلَكًا عَلَى صُورَتِهِ فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ مَثَلًا يَدْعُو فِي الْأَسْرِ وَغَيْرِهِ مَارّ جرجس أَوْ غَيْرَهُ فَيَرَاهُ قَدْ أَتَاهُ فِي الْهَوَاءِ وَكَذَلِكَ أُخَرُ غَيْرُهُ وَقَدْ سَأَلُوا بَعْضَ بَطَارِقَتِهِمْ عَنْ هَذَا كَيْفَ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ فَقَالَ : هَذِهِ مَلَائِكَةٌ يَخْلُقُهُمْ اللَّهُ عَلَى صُورَتِهِ تُغِيثُ مَنْ يَدْعُوهُ وَإِنَّمَا تِلْكَ شَيَاطِينُ أَضَلَّتْ الْمُشْرِكِينَ . وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالشِّرْكِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَدْعُو وَيَسْتَغِيثُ بِشَيْخِهِ الَّذِي يُعَظِّمُهُ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ يَسْتَغِيثُ بِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَسْأَلُهُ وَقَدْ يَنْذِرُ لَهُ نَذْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيَرَى ذَلِكَ الشَّخْصَ قَدْ أَتَاهُ فِي الْهَوَاءِ وَدَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ أَوْ كَلَّمَهُ بِبَعْضِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَظُنُّهُ الشَّيْخُ نَفْسَهُ أَتَى إنْ كَانَ حَيًّا حَتَّى أَنِّي أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ جَمَاعَاتٍ يَأْتُونَ إلَى الشَّيْخِ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَغَاثُوا بِهِ وَقَدْ رَأَوْهُ أَتَاهُمْ فِي الْهَوَاءِ فَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ لَهُ . هَؤُلَاءِ يَأْتُونَ إلَى هَذَا الشَّيْخِ وَهَؤُلَاءِ يَأْتُونَ إلَى هَذَا الشَّيْخِ فَتَارَةً يَكُونُ الشَّيْخُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الرِّيَاسَةَ سَكَتَ وَأَوْهَمَ أَنَّهُ نَفْسَهُ أَتَاهُمْ وَأَغَاثَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ صِدْقٌ مَعَ جَهْلٍ وَضَلَالٍ قَالَ : هَذَا مَلَكٌ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَتِي . وَجَعَلَ هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَجَعَلَهُ عُمْدَةً لِمَنْ يَسْتَغِيثُ بِالصَّالِحِينَ وَيَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا وَأَنَّهُمْ إذَا اسْتَغَاثُوا بِهِمْ بَعَثَ اللَّهُ مَلَائِكَةً عَلَى صُوَرِهِمْ تُغِيثُ الْمُسْتَغِيثَ بِهِمْ . وَلِهَذَا أَعْرِفُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ فِيهِمْ صِدْقٌ وَزُهْدٌ وَعِبَادَةٌ لَمَّا ظَنُّوا هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ صَارَ أَحَدُهُمْ يُوصِي مُرِيدِيهِ يَقُولُ : إذَا كَانَتْ لِأَحَدِكُمْ حَاجَةٌ فَلْيَسْتَغِثْ بِي وليستنجدني وَلْيَسْتَوْصِنِي وَيَقُولَ : أَنَا أَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِي مَا كُنْت أَفْعَلُ فِي حَيَاتِي وَهُوَ لَا يَعْرِف أَنَّ تِلْكَ شَيَاطِينُ تَصَوَّرَتْ عَلَى صُورَتِهِ لِتُضِلَّهُ وَتُضِلَّ أَتْبَاعَهُ فَتُحَسِّنُ لَهُمْ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَدُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَأَنَّهَا قَدْ تُلْقِي فِي قَلْبِهِ أَنَّا نَفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِك بِأَصْحَابِك مَا كُنَّا نَفْعَلُ بِهِمْ فِي حَيَاتِك فَيَظُنُّ هَذَا مِنْ خِطَابٍ إلَهِيٍّ أُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ فَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ تَخْدِمُهُ فِي حَيَاتِهِ بِأَنْوَاعِ الْخَدَمِ مِثْلَ خِطَابِ أَصْحَابِهِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ وَإِعَانَتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمَّا مَاتَ صَارُوا يَأْتُونَ أَحَدَهُمْ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ وَيُشْعِرُونَهُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَيُرْسِلُونَ إلَى أَصْحَابِهِ رَسَائِلَ بِخِطَابِ وَقَدْ كَانَ يَجْتَمِعُ بِي بَعْضُ أَتْبَاعِ هَذَا الشَّيْخِ وَكَانَ فِيهِ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ وَكَانَ يُحِبُّنِي وَيُحِبُّ هَذَا الشَّيْخَ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَرَامَاتِ وَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَمُتْ وَذَكَرَ لِي الْكَلَامَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَرَأَهُ فَإِذَا هُوَ كَلَامُ الشَّيَاطِينِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ ذَكَرَ لِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فَرَأَوْنِي فِي الْهَوَاءِ وَقَدْ أَتَيْتهمْ وَخَلَّصْتهمْ مِنْ تِلْكَ الشَّدَائِدِ مِثْلَ مَنْ أَحَاطَ بِهِ النَّصَارَى الْأَرْمَنُ لِيَأْخُذُوهُ وَآخَرُ قَدْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ وَمَعَهُ كُتُبٌ مُلَطِّفَاتٌ مِنْ مناصحين لَوْ اطَّلَعُوا عَلَى مَا مَعَهُ لَقَتَلُوهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَذَكَرْت لَهُمْ أَنِّي مَا دَرَيْت بِمَا جَرَى أَصْلًا وَحَلَفْت لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَظُنُّوا أَنِّي كَتَمْت ذَلِكَ كَمَا تُكْتَمُ الْكَرَامَاتُ وَأَنَا قَدْ عَلِمْت أَنَّ الَّذِي فَعَلُوهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بَلْ هُوَ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لِي فِيمَا بَعْدُ وَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ شَيَاطِينُ تَتَصَوَّرُ عَلَى صُورَةِ الْمُسْتَغَاثِ بِهِ . وَحَكَى لِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشُّيُوخِ أَنَّهُ جَرَى لِمَنْ اسْتَغَاثَ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ وَحَكَى خَلْقٌ كَثِيرٌ أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِأَحْيَاءِ وَأَمْوَاتٍ فَرَأَوْا مِثْلَ ذَلِكَ وَاسْتَفَاضَ هَذَا حَتَّى عُرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ الشَّيَاطِينِ وَالشَّيَاطِينُ تُغْوِي الْإِنْسَانَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ أَوْقَعَتْهُ فِي الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْكُفْرِ الْمَحْضِ فَأَمَرَتْهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ اللَّهَ وَأَنْ يَسْجُدَ لِلشَّيْطَانِ وَيَذْبَحَ لَهُ وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَالدَّم وَيَفْعَلَ الْفَوَاحِشَ وَهَذَا يَجْرِي كَثِيرًا فِي بِلَادِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ وَبِلَادٍ فِيهَا كُفْرٌ وَإِسْلَامٌ ضَعِيفٌ وَيَجْرِي فِي بَعْضِ مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَضْعُفُ إيمَانُ أَصْحَابِهَا حَتَّى قَدْ جَرَى ذَلِكَ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ عَلَى أَنْوَاعٍ يَطُولُ وَصْفُهَا وَهُوَ فِي أَرْضِ الشَّرْقِ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي التَّتَارِ كَثِيرٌ جِدًّا وَكُلَّمَا ظَهَرَ فِيهِمْ الْإِسْلَامُ وَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُ قَلَّتْ آثَارُ الشَّيَاطِينِ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا يَخْتَارُ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ أَعَانَتْهُ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا أَكْثَرُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فِي أَهْلِهَا إسْلَامٌ وَجَاهِلِيَّةٌ وَبِرٌّ وَفُجُورٌ وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ فِيهِ إسْلَامٌ وَدِيَانَةٌ وَلَكِنْ عِنْدَهُ قِلَّةٌ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَرَفَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَرَامَاتٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَمَالَ الْوِلَايَةِ وَأَنَّهَا الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى وَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَوْ يَعْرِفُ ذَلِكَ مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَبَيْنَ النَّفْسَانِيَّةِ والشيطانية كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ . رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ . فَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ . فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَتْهُ الشَّيَاطِينُ بِأَمْرٍ لَا يُنْكِرُهُ فَتَارَةً يَحْمِلُونَ أَحَدَهُمْ فِي الْهَوَاءِ وَيَقِفُونَ بِهِ بِعَرَفَاتِ ثُمَّ يُعِيدُونَهُ إلَى بَلَدِهِ وَهُوَ لَابِسٌ ثِيَابَهُ لَمْ يَحْرُمْ حِينَ حَاذَى الْمَوَاقِيتِ وَلَا كَشَفَ رَأْسَهُ وَلَا تَجَرَّدَ عَمَّا يَتَجَرَّدُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَدْعُونَهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ يَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَيَرْمِي الْجِمَارَ وَيُكْمِلُ حَجَّهُ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ مُجَرَّدَ الْوُقُوفِ - كَمَا فَعَلَ - عِبَادَةٌ وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ عَلِمَ دِينَ الْإِسْلَامِ لَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَأَنَّهُ مَنْ اسْتَحَلَّ هَذَا فَهُوَ مُرْتَدٌّ يَجِبُ قَتْلُهُ بَلْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الْمُحْرِمِ اللُّبْسُ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَأَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِالْوُقُوفِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيضَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَيَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهَذَا مِمَّا تُنُوزِعَ فِيهِ هَلْ هُوَ رُكْنٌ أَوْ وَاجِبٌ يَجْبُرُهُ دَمٌ ؟ وَعَلَيْهِ أَيْضًا رَمْيُ الْجِمَارِ أَيَّامَ مِنًى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَحْمِلُ أَحَدَهُمْ الْجِنُّ فَتُزَوِّرُهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَيْرَهُ وَتَطِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ وَتَمْشِي بِهِ فِي الْمَاءِ وَقَدْ تُرِيهِ أَنَّهُ قَدْ ذُهِبَ بِهِ إلَى مَدِينَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَرُبَّمَا أَرَتْهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا . وَهَذَا كُلُّهُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّا أَعْرِفُهُ قَدْ وَقَعَ لِمَنْ أَعْرِفُهُ ; لَكِنَّ هَذَا بَابٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ أَصْلَ الشِّرْكِ فِي الْعَالَمِ كَانَ مِنْ عِبَادَةِ الْبَشَرِ الصَّالِحِينَ وَعِبَادَةِ تَمَاثِيلِهِمْ وَهُمْ الْمَقْصُودُونَ . وَمِنْ الشِّرْكِ مَا كَانَ أَصْلُهُ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ إمَّا الشَّمْسُ وَإِمَّا الْقَمَرُ وَإِمَّا غَيْرُهُمَا وَصَوَّرَتْ الْأَصْنَامُ طَلَاسِمَ لِتِلْكَ الْكَوَاكِبِ وَشِرْكُ قَوْمِ إبْرَاهِيمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - كَانَ مِنْ هَذَا أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ الشِّرْكِ مَا كَانَ أَصْلُهُ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْجِنِّ وُضِعَتْ الْأَصْنَامُ لِأَجْلِهِمْ وَإِلَّا فَنَفْسُ الْأَصْنَامِ الْجَمَادِيَّةِ لَمْ تُعْبَدْ لِذَاتِهَا بَلْ لِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَشِرْكُ الْعَرَبِ كَانَ أَعْظَمُهُ الْأَوَّلَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ الْجَمِيعِ . فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ لحي هُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ قَدْ أَتَى الشَّامَ وَرَآهُمْ بِالْبَلْقَاءِ لَهُمْ أَصْنَامٌ يَسْتَجْلِبُونَ بِهَا الْمَنَافِعَ وَيَدْفَعُونَ بِهَا الْمَضَارَّ فَصُنْعُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ لَمَّا كَانَتْ خُزَاعَةُ وُلَاةَ الْبَيْتِ قَبْلَ قُرَيْشٍ وَكَانَ هُوَ سَيِّدَ خُزَاعَةَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لحي بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خندف يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ - أَيْ أَمْعَاءَهُ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ وبحر الْبَحِيرَةَ } . وَكَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - شِرْكُ قَوْمِ نُوحٍ وَإِنْ كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ فَالشَّيْطَانُ يَجُرُّ النَّاسَ مِنْ هَذَا إلَى غَيْرِهِ لَكِنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى النَّاسِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ وَبَرَكَتَهُ وَدُعَاءَهُ فَيَعْكُفُونَ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقْصِدُونَ ذَلِكَ مِنْهُ فَتَارَةً يَسْأَلُونَهُ وَتَارَةً يَسْأَلُونَ اللَّهَ بِهِ وَتَارَةً يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ ظَانِّينَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ . وَلَمَّا كَانَ هَذَا مَبْدَأَ الشِّرْكِ سَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْبَابَ كَمَا سَدَّ بَابَ الشِّرْكِ بِالْكَوَاكِبِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَذُكِرَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرُ فِيهَا فَقَالَ : إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ هُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ { عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي داود وَغَيْرِهِ { عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ { عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ أَبِي الهياج الأسدي قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته وَلَا تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته } فَأَمَرَهُ بِمَحْوِ التِّمْثَالَيْنِ : الصُّورَةِ الْمُمَثِّلَةِ عَلَى صُورَةِ الْمَيِّتِ وَالتِّمْثَالِ الشَّاخِصِ الْمُشْرِفِ فَوْقَ قَبْرِهِ . فَإِنَّ الشِّرْكَ يَحْصُلُ بِهَذَا وَبِهَذَا . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا يَنْتَابُونَ مَكَانًا لِلصَّلَاةِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ وَبَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا يَذْهَبُونَ إلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ تَحْتَهَا فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا وَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى يَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ ظَهَرَ بتستر قَبْرُ دَانْيَالَ وَعِنْدَهُ مُصْحَفٌ فِيهِ أَخْبَارُ مَا سَيَكُونُ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ أَخْبَارُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ إذَا أَجْدَبُوا كَشَفُوا عَنْ الْقَبْرِ فَمُطِرُوا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْفِرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا وَيَدْفِنُهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لِئَلَّا يَعْرِفَهُ النَّاسُ ; لِئَلَّا يُفْتَنُوا بِهِ . فَاِتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا مَسْجِدًا كَانَ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا أَعْظَمَ . كَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَحْرُمُ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَيَجِبُ هَدْمُ كُلِّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ قُبِرَ فِي مَسْجِدٍ وَقَدْ طَالَ مُكْثُهُ سَوَّى الْقَبْرَ حَتَّى لَا تَظْهَرَ صُورَتُهُ فَإِنَّ الشِّرْكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا ظَهَرَتْ صُورَتُهُ وَلِهَذَا كَانَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَفِيهَا نَخْلٌ وَخَرِبٌ فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ وَبِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ فَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْبَرَةً فَصَارَ مَسْجِدًا . وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَبِنَاءُ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا مُحَرَّمًا وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ قَطُّ مَسْجِدٌ عَلَى قَبْرٍ وَكَانَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَغَارَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا وَهِيَ مَسْدُودَةٌ لَا أَحَدَ يَدْخُلُ إلَيْهَا وَلَا تَشُدُّ الصَّحَابَةُ الرِّحَالَ لَا إلَيْهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَقَابِرِ ; لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } . فَكَانَ يَأْتِي مَنْ يَأْتِي مِنْهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ لَا يَأْتُونَ مَغَارَةَ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرَهَا وَكَانَتْ مَغَارَةُ الْخَلِيلِ مَسْدُودَةً حَتَّى اسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى الشَّامِ فِي أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فَفَتَحُوا الْبَابَ وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ كَنِيسَةً ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ اتَّخَذَهُ بَعْضُ النَّاسِ مَسْجِدًا وَأَهْلُ الْعِلْمِ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ { فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ طِيبَةُ انْزِلْ فَصَلِّ فَنَزَلَ فَصَلَّى هَذَا مَكَانُ أَبِيك انْزِلْ فَصَلِّ } . كَذِبٌ مَوْضُوعٌ لَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى خَاصَّةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ وَلَا نَزَلَ إلَّا فِيهِ . وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَقَدِمَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبَعْدَ فَتْحِ الشَّامِ لَمَّا صَالَحَ النَّصَارَى عَلَى الْجِزْيَةِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ الشُّرُوطَ الْمَعْرُوفَةَ وَقَدِمَهَا مَرَّةً ثَالِثَةً حَتَّى وَصَلَ إلَى سرغ وَمَعَهُ أَكَابِرُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى مَغَارَةِ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بِالشَّامِ لَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا بِدِمَشْقَ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِثْلَ الْآثَارِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بِجَبَلِ قاسيون فِي غَرْبِيِّهِ الرَّبْوَةُ الْمُضَافَةُ إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي شَرْقِيِّهِ الْمَقَامُ الْمُضَافُ إلَى الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ مَغَارَةُ الدَّمِ الْمُضَافَةُ إلَى هَابِيلَ لَمَّا قَتَلَهُ قَابِيلُ فَهَذِهِ الْبِقَاعُ وَأَمْثَالُهَا لَمْ يَكُنْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ يَقْصِدُونَهَا وَلَا يَزُورُونَهَا وَلَا يَرْجُونَ مِنْهَا بَرَكَةً فَإِنَّهَا مَحَلُّ الشِّرْكِ . وَلِهَذَا تُوجَدُ فِيهَا الشَّيَاطِينُ كَثِيرًا وَقَدْ رَآهُمْ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسِ وَيَقُولُونَ لَهُمْ رِجَالُ الْغَيْبِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ غَائِبِينَ عَنْ الْأَبْصَارِ وَإِنَّمَا هُمْ جِنُّ وَالْجِنُّ يُسَمَّوْنَ رِجَالًا . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } وَالْإِنْسُ سُمُّوا إنْسًا لِأَنَّهُمْ يُؤْنَسُونَ أَيْ يُرَوْنَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنِّي آنَسْتُ نَارًا } أَيْ رَأَيْتهَا وَالْجِنُّ سُمُّوا جِنًّا لِاجْتِنَانِهِمْ يَجْتَنُّونَ عَنْ الْأَبْصَارِ أَيْ يَسْتَتِرُونَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أَيْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَغَطَّاهُ وَسَتَرَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْإِنْسِ يَسْتَتِرُ دَائِمًا عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ وَإِنَّمَا يَقَعُ هَذَا لِبَعْضِ الْإِنْسِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ : تَارَةً عَلَى وَجْهِ الْكَرَامَةِ لَهُ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَعَمَلِ الشَّيَاطِينِ وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لَمْ يَبْنُوا قَطُّ عَلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ مَسْجِدًا وَلَا جَعَلُوهُ مَشْهَدًا وَمَزَارًا وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ مَكَانٍ نَزَلَ فِيهِ أَوْ صَلَّى فِيهِ أَوْ فَعَلَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِنَاءَ مَسْجِدٍ لِأَجْلِ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَمْ يَكُنْ جُمْهُورُهُمْ يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ فِي مَكَانٍ لَمْ يَقْصِدْ الرَّسُولُ الصَّلَاةَ فِيهِ بَلْ نَزَلَ فِيهِ أَوْ صَلَّى فِيهِ اتِّفَاقًا بَلْ كَانَ أَئِمَّتُهُمْ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ يَنْهَى عَنْ قَصْدِ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ خَاصَّةً أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَسِيرَ حَيْثُ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْزِلَ حَيْثُ نَزَلَ وَيُصَلِّيَ حَيْثُ صَلَّى وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ تِلْكَ الْبُقْعَةَ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بَلْ حَصَلَ اتِّفَاقًا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَجُلًا صَالِحًا شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ فَرَأَى هَذَا مِنْ الِاتِّبَاعِ . وَأَمَّا أَبُوهُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَائِرِ الْعَشْرَةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ فَلَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَصَحّ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَ . فَإِذَا قَصَدَ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَةَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ كَانَ قَصْدُ الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مُتَابَعَةً لَهُ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ فَإِنَّ قَصْدَهَا يَكُونُ مُخَالَفَةً لَا مُتَابَعَةً لَهُ . مِثَالُ الْأَوَّلِ لَمَّا قَصَدَ الْوُقُوفَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَبَيْنَ الْجَمْرَتَيْنِ كَانَ قَصْدُ تِلْكَ الْبِقَاعِ مُتَابَعَةً لَهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا طَافَ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ كَانَ فِعْلُ ذَلِكَ مُتَابَعَةً لَهُ وَكَذَلِكَ لَمَّا صَعِدَ عَلَى الصَّفَا والمروة لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ كَانَ قَصْدُ ذَلِكَ مُتَابَعَةً لَهُ وَقَدْ كَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ قَالَ لِأَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا فَلَمَّا رَآهُ يَقْصِدُ تِلْكَ الْبُقْعَةَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ كَانَ ذَلِكَ الْقَصْدُ لِلصَّلَاةِ مُتَابَعَةً وَكَذَلِكَ { لَمَّا أَرَادَ عتبان بْنُ مَالِكٍ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا لَمَّا عَمِيَ فَأَرْسَلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ إنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي تُصَلِّي فِي مَنْزِلِي فَاتَّخِذْهُ مُصَلًّى وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ تَعَالَ فَحَطَّ لِي مَسْجِدًا فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَتْ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَقَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِك ؟ فَأَشَرْت لَهُ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْنَا وَرَاءَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ } . الْحَدِيثُ . فَإِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مِنْ يُصَلِّي فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَبْنِيَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ فَالْمَقْصُودُ كَانَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَبْنِيهِ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ مَقْصُودَةً لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ مَقْصُودًا لِأَجْلِ كَوْنِهِ صَلَّى فِيهِ اتِّفَاقًا وَهَذَا الْمَكَانُ مَكَانٌ قَصَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِيهِ لِيَكُونَ مَسْجِدًا فَصَارَ قَصْدُ الصَّلَاةِ فِيهِ مُتَابَعَةً لَهُ بِخِلَافِ مَا اتَّفَقَ أَنَّهُ صَلَّى فِيهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَكَذَلِكَ قَصْدُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ بِالصَّوْمِ مُتَابَعَةً لِأَنَّهُ قَصَدَ صَوْمَ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّهُ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا } . وَكَذَلِكَ قَصْدُ إتْيَانِ مَسْجِدِ قباء مُتَابَعَةً لَهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قباء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } وَكَانَ مَسْجِدُهُ هُوَ الْأَحَقَّ بِهَذَا الْوَصْفِ وَقَدْ ثَبَتَ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى التَّقْوَى فَقَالَ : هُوَ مَسْجِدِي هَذَا } يُرِيدُ أَنَّهُ أَكْمَلُ فِي هَذَا الْوَصْفِ مِنْ مَسْجِدِ قباء وَمَسْجِدُ قباء أَيْضًا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَبِسَبَبِهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ ; وَلِهَذَا قَالَ : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } وَكَانَ أَهْلُ قباء مَعَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ . تَعَلَّمُوا ذَلِكَ مِنْ جِيرَانِهِمْ الْيَهُودِ وَلَمْ تَكُنْ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَاكَ هُوَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى دُونَ مَسْجِدِهِ فَذَكَرَ أَنَّ مَسْجِدَهُ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُؤَسَّسَ عَلَى التَّقْوَى فَقَوْلُهُ : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } يَتَنَاوَلُ مَسْجِدَهُ وَمَسْجِدَ قباء وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى بِخِلَافِ مَسَاجِدِ الضِّرَارِ . وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الصَّلَاةَ فِيمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَيَرَوْنَ الْعَتِيقَ أَفْضَلَ مِنْ الْجَدِيدِ ; لِأَنَّ الْعَتِيقَ أَبْعَدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بُنِيَ ضِرَارًا مِنْ الْجَدِيدِ الَّذِي يَخَافُ ذَلِكَ فِيهِ وَعِتْقُ الْمَسْجِدِ مِمَّا يُحْمَدُ بِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَقَالَ : { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فَإِنَّ قِدَمَهُ يَقْتَضِي كَثْرَةَ الْعِبَادَةِ فِيهِ أَيْضًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي زِيَادَةَ فَضْلِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا قَصْدُ شَيْءٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَالْمَزَارَاتِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بَعْدَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَسْجِدَ قباء ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ مَسْجِدًا بِعَيْنِهِ يَذْهَبُ إلَيْهِ إلَّا هُوَ . وَقَدْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مَسْجِدٌ لَكِنْ لَيْسَ فِي قَصْدِهِ دُونَ أَمْثَالِهِ فَضِيلَةٌ بِخِلَافِ مَسْجِدِ قباء فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ قَصَدَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قباء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ كَعُمْرَةِ } . وَمَعَ هَذَا فَلَا يُسَافَرُ إلَيْهِ لَكِنْ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ بِالْمَدِينَةِ أَتَاهُ وَلَا يَقْصِدُ إنْشَاءَ السَّفَرِ إلَيْهِ بَلْ يَقْصِدُ إنْشَاءَ السَّفَرِ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } وَلِهَذَا لَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِ قباء لَمْ يُوَفِّ بِنَذْرِهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ إلَيْهِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَكَذَلِكَ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَفِي الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; لَكِنَّهُ جَائِزٌ وَمُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ يَجِبُ بِالنَّذْرِ كُلُّ مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا زِيَارَةُ قُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ ; لِلدُّعَاءِ لَهُمْ وَالِاسْتِغْفَارِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصِدُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ لِجَمِيعِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُسْتَحَبُّ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءُ لَهُمْ وَالِاسْتِغْفَارُ . وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ بِهَذَا الْقَصْدِ مُسْتَحَبَّةٌ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ .