تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ لَفْظُ " النِّيَّةِ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ جِنْسِ لَفْظِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ : نَوَاك اللَّهُ بِخَيْرِ أَيْ : أَرَادَك بِخَيْرِ وَيَقُولُونَ : نَوَى مَنْوِيَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَنْوِيهِ يُسَمُّونَهُ نَوَى كَمَا يَقُولُونَ : قَبْضَ بِمَعْنَى مَقْبُوضٍ وَالنِّيَّةُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ نَوْعٍ مِنْ إرَادَةٍ وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْ نَفْسِ الْمُرَادِ كَقَوْلِ الْعَرَب : هَذِهِ نِيَّتِي يَعْنِي : هَذِهِ الْبُقْعَةُ هِيَ الَّتِي نَوَيْت إتْيَانَهَا وَيَقُولُونَ : نِيَّتُهُ قَرِيبَةٌ أَوْ بَعِيدَةٌ أَيْ : الْبُقْعَةُ الَّتِي نَوَى قَصْدَهَا لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا أَخَصُّ مِنْ الْإِرَادَةِ ; فَإِنَّ إرَادَةَ الْإِنْسَانِ تَتَعَلَّقُ بِعَمَلِهِ وَعَمَلِ غَيْرِهِ وَالنِّيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِعَمَلِهِ فَإِنَّك تَقُولُ : أَرَدْت مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَلَا تَقُولُ نَوَيْت مِنْ فُلَانٍ كَذَا . فَصْلٌ : وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " : هَلْ فِيهِ إضْمَارٌ أَوْ تَخْصِيصٌ ؟ أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ ؟ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى الْأَوَّلِ قَالُوا : لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّاتِ الْأَعْمَالُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَجِبُ أَوْ تُسْتَحَبُّ وَالْأَعْمَالُ كُلُّهَا لَا تُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا هَذِهِ النِّيَّاتُ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنْ الغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ وَالدُّيُونِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الدَّافِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ . بَلْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَسَلَّمَ الْمُسْتَحِقُّ عَيْنَ مَالِهِ أَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ الْمُودَعَ أَوْ الْمَغْصُوبَ فَأَوْقَعَتْهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : تَقْدِيرُهُ إنَّمَا ثَوَابُ الْأَعْمَالِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا بِالنِّيَّاتِ أَوْ إنَّمَا تُقْبَلُ بِالنِّيَّاتِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَقْدِيرُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ إنَّمَا صِحَّتُهَا أَوْ إنَّمَا أَجْزَاؤُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَقَالَ الْجُمْهُورُ : بَلْ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنِّيَّاتِ فِيهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَحْدَهَا بَلْ أَرَادَ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ وَالْمَذْمُومَةَ وَالْعَمَلَ الْمَحْمُودَ وَالْمَذْمُومَ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهِ : " { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } " إلَخْ فَذَكَرَ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ بِالْهِجْرَةِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَطْ وَالنِّيَّةَ الْمَذْمُومَةَ وَهِيَ الْهِجْرَةُ إلَى امْرَأَةٍ أَوْ مَالٍ وَهَذَا ذَكَرَهُ تَفْصِيلًا بَعْدَ إجْمَالٍ فَقَالَ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } " ثُمَّ فَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ } " إلَخْ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَدْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِأَجْلِ امْرَأَةٍ كَانَ يُحِبُّهَا تُدْعَى أُمَّ قَيْسٍ فَكَانَتْ هِجْرَتُهُ لِأَجْلِهَا فَكَانَ يُسَمَّى مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ فَلِهَذَا ذَكَرَ فِيهِ " { أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا - وَفِي رِوَايَةٍ - يَنْكِحُهَا } " فَخَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ لِاقْتِضَاءِ سَبَبِ الْحَدِيثِ لِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالسَّبَبُ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْعَامُّ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَالْهِجْرَةُ فِي الظَّاهِرِ هِيَ : سَفَرٌ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَالسَّفَرُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نِيَّةِ صَاحِبِهِ فَقَدْ يَكُونُ سَفَرًا وَاجِبًا كَحَجِّ أَوْ جِهَادٍ مُتَعَيَّنٍ وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا كَسَفَرِ الْعَادِي لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْبَاغِي عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ . وَالْمَرْأَةِ النَّاشِزِ . وَلِهَذَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ وَالْعَاصِي فِي سَفَرِهِ فَقَالُوا : إذَا سَافَرَ سَفَرًا مُبَاحًا كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ جَازَ لَهُ فِيهِ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ عَصَى فِي ذَلِكَ السَّفَرِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّرَخُّصُ بِرُخَصِ السَّفَرِ كَالْفِطْرِ وَالْقَصْرِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَ هَذَا السَّفَرَ وَهَذَا السَّفَرَ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ ذِكْرُ جِنْسِ الْأَعْمَالِ مُطْلَقًا لَا نَفْسُ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ بِنَفْسِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَمَقْصُودُهُ ذِكْرُ جِنْسِ النِّيَّةِ وَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " مِمَّا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ كَمَا قَالَ : " { بُعِثْت بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ } " وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَجْمَعِ الْكَلِمِ الْجَوَامِعِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا فَإِنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ عَامِلٌ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ بِحَسَبِ مَا نَوَاهُ فَإِنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ مَقْصُودًا حَسَنًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ الْحَسَنُ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ مَقْصُودًا سَيِّئًا كَانَ لَهُ مَا نَوَاهُ .