مسألة تاليةمسألة سابقة
				
				
				
				متن:
				 وَالْمَقْصُودُ هُنَا  أَنَّ   النَّبِيَّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَفِيمَا يُبْغِضُ  فَأَمَرَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ  وَدَعَا إلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ  وَنَهَى  عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَحَسَمَ مَادَّتَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَمْ يَخُصَّ   الْعَرَبَ  بِنَوْعٍ  مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ; إذْ  كَانَتْ دَعْوَتُهُ لِجَمِيعِ  الْبَرِيَّةِ ; لَكِنْ  نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ بَلْ  نَزَلَ بِلِسَانِ   قُرَيْشٍ  كَمَا  ثَبَتَ   عَنْ  عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ  أَنَّهُ  قَالَ  لِابْنِ مَسْعُودٍ  : أَقْرِئْ النَّاسَ بِلُغَةِ   قُرَيْشٍ  فَإِنَّ الْقُرْآنَ  نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ  وَكَمَا  قَالَ  عُثْمَانُ  لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْمُصْحَفَ  مِنْ   قُرَيْشٍ   وَالْأَنْصَارِ  : إذَا اخْتَلَفْتُمْ  فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ  هَذَا الْحَيِّ  مِنْ   قُرَيْشٍ  فَإِنَّ الْقُرْآنَ  نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ  وَهَذَا  لِأَجْلِ التَّبْلِيغِ ;  لِأَنَّهُ بَلَّغَ قَوْمَهُ أَوَّلًا  ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِمْ بَلَّغَ  سَائِرَ الْأُمَمِ  وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِ قَوْمِهِ أَوَّلًا  ثُمَّ بِتَبْلِيغِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إلَيْهِ  كَمَا  أَمَرَ بِجِهَادِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ .  وَمَا  ذَكَرَهُ كَثِيرٌ  مِنْ الْعُلَمَاءِ  مِنْ  أَنَّ غَيْرَ   الْعَرَبِ  لَيْسُوا أَكْفَاءً   لِلْعَرَبِ  فِي النِّكَاحِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى الْكَفَاءَةَ إلَّا  فِي الدِّينِ وَمَنْ  رَآهَا  فِي النَّسَبِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ   بِقَوْلِ  عُمَرَ  : لَأَمْنَعَن ذَوَاتَ الْأَحْسَابِ إلَّا  مِنْ الْأَكْفَاءِ  ;  لِأَنَّ النِّكَاحَ مَقْصُودُهُ حُسْنُ الْأُلْفَةِ فَإِذَا  كَانَتْ الْمَرْأَةُ  أَعْلَى مَنْصِبًا اشْتَغَلَتْ عَنْ الرَّجُلِ  فَلَا يَتِمُّ  بِهِ الْمَقْصُودُ  . وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ  جَعَلَ  ذَلِكَ حَقًّا لِلَّهِ . حَتَّى  أَبْطَلَ النِّكَاحَ إذَا  زُوِّجَتْ الْمَرْأَةُ بِمَنْ لَا يُكَافِئُهَا  فِي الدِّينِ أَوْ الْمَنْصِبِ  وَمَنْ  جَعَلَهَا حَقًّا لِآدَمِيٍّ  قَالَ : إنَّ  فِي  ذَلِكَ غَضَاضَةً  عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ وَعَلَيْهَا وَالْأَمْرُ إلَيْهِمْ  فِي  ذَلِكَ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يَخُصُّونَ الْكَفَاءَةَ بِالنَّسَبِ بَلْ يَقُولُونَ : هِيَ  مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَفَاضَلُ بِهَا النُّفُوسُ كَالصِّنَاعَةِ وَالْيَسَارِ وَالْحُرِّيَّةِ وَغَيْرِ  ذَلِكَ وَهَذِهِ مَسَائِلُ اجْتِهَادِيَّةٌ تُرَدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ;  فَإِنْ جَاءَ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يُوَافِقُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ  فَمَا جَاءَ عَنْ اللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ  وَإِلَّا  فَلَا يَكُونُ قَوْلُ أَحَدٍ حُجَّةً  عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ .  وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ  فِي هَذِهِ الْأُمُورِ بَلْ قَدْ  قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ   {   إنَّ اللَّهَ  أَذْهَبَ عَنْكُمْ عِيبَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ النَّاسُ رَجُلَانِ : مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ ; وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ   }  وَفِي   صَحِيحِ  مُسْلِمٍ  عَنْهُ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أَنَّهُ  قَالَ :   {   أَرْبَعٌ  فِي  أُمَّتِي  مِنْ  أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ : . الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ ; وَالطَّعْنُ  فِي الْأَنْسَابِ ; وَالنِّيَاحَةُ ; وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ   }  وَقَدْ  ثَبَتَ عَنْهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ  وَآلِهِ وَسَلَّمَ  أَنَّهُ  قَالَ : {   إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى   كِنَانَةَ  مِنْ   بَنِي إسْمَاعِيلَ  . وَاصْطَفَى   قُرَيْشًا  مِنْ   كِنَانَةَ  وَاصْطَفَى   بَنِي هَاشِمٍ  مِنْ   قُرَيْشٍ  وَاصْطَفَانِي  مِنْ   بَنِي هَاشِمٍ  فَأَنَا خَيْرُكُمْ نَفْسًا وَخَيْرُكُمْ نَسَبًا   }  . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ  عَلَى  أَنَّ جِنْسَ   الْعَرَبِ  خَيْرٌ  مِنْ غَيْرِهِمْ  كَمَا  أَنَّ جِنْسَ   قُرَيْشٍ  خَيْرٌ  مِنْ غَيْرِهِمْ وَجِنْسَ   بَنِي هَاشِمٍ  خَيْرٌ  مِنْ غَيْرِهِمْ . وَقَدْ  ثَبَتَ  فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أَنَّهُ  قَالَ :   {   النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ  فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ  فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا   }  .  لَكِنَّ تَفْضِيلَ الْجُمْلَةِ  عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ  يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ  أَفْضَلَ  مِنْ كُلِّ فَرْدٍ  فَإِنَّ  فِي غَيْرِ   الْعَرَبِ  خَلْقًا كَثِيرًا خَيْرًا  مِنْ أَكْثَرِ   الْعَرَبِ  وَفِي غَيْرِ   قُرَيْشٍ  مِنْ   الْمُهَاجِرِينَ   وَالْأَنْصَارِ  مَنْ هُوَ خَيْرٌ  مِنْ أَكْثَرِ   قُرَيْشٍ  وَفِي غَيْرِ   بَنِي هَاشِمٍ  مِنْ   قُرَيْشٍ  وَغَيْرِ   قُرَيْشٍ  مَنْ هُوَ خَيْرٌ  مِنْ أَكْثَرِ   بَنِي هَاشِمٍ  كَمَا  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {   إنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْت  فِيهِمْ  ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ  ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ   }  وَفِي الْقُرُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ  مِنْ كَثِيرٍ  مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَمَعَ  هَذَا فَلَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  الْقَرْنَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ  كَذَلِكَ لَمْ يَخُصَّ   الْعَرَبَ  بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ وَلَا  خَصَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِحُكْمٍ  دُونَ  سَائِرِ  أُمَّتِهِ وَلَكِنْ   الصَّحَابَةُ  لِمَا  كَانَ  لَهُمْ  مِنْ الْفَضْلِ  أَخْبَرَ بِفَضْلِهِمْ  وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ لَمْ يَخُصَّهُمْ بِحُكْمِ وَلَكِنْ  أَخْبَرَ بِمَا  لَهُمْ  مِنْ الْفَضْلِ لِمَا  اخْتَصُّوا  بِهِ  مِنْ الْعَمَلِ  وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ .  وَالْمَقْصُودُ هُنَا  أَنَّهُ  أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ : الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَلَمْ يَخُصَّ   الْعَرَبَ  دُونَ غَيْرِهِمْ  مِنْ الْأُمَمِ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَكِنْ  خَصَّ   قُرَيْشًا  بِأَنَّ الْإِمَامَةَ  فِيهِمْ  وَخَصَّ   بَنِي هَاشِمٍ  بِتَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ  وَذَلِكَ لِأَنَّ جِنْسَ   قُرَيْشٍ  لَمَّا  كَانُوا  أَفْضَلَ  وَجَبَ أَنْ  يَكُونَ الْإِمَامَةُ  فِي أَفْضَلِ الْأَجْنَاسِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَلَيْسَتْ الْإِمَامَةُ أَمْرًا شَامِلًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا يَتَوَلَّاهَا وَاحِدٌ  مِنْ النَّاسِ . وَأَمَّا تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِ  وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ تَكْمِيلًا لِتَطْهِيرِهِمْ وَدَفْعًا لِلتُّهْمَةِ عَنْهُ  كَمَا لَمْ يُوَرِّثْ  فَلَا يَأْخُذُ وَرَثَتُهُ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا ; بَلْ لَا يَكُونُ لَهُ وَلِمَنْ يَمُونُهُ  مِنْ  مَالِ اللَّهِ إلَّا نَفَقَتُهُمْ  وَسَائِرُ  مَالِ اللَّهِ يُصْرَفُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَذَوُو  قُرْبَاهُ يُعْطَوْنَ بِمَعْرُوفٍ  مِنْ  مَالِ الْخُمُسِ  وَالْفَيْءُ الَّذِي يُعْطَى مِنْهُ  فِي  سَائِرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَخْتَصُّ بِأَصْنَافٍ مُعَيَّنَةٍ  كَالصَّدَقَاتِ  ثُمَّ مَا  جَعَلَ لِذَوِي الْقُرْبَى قَدْ  قِيلَ : إنَّهُ  سَقَطَ بِمَوْتِهِ  كَمَا يَقُولُهُ  أَبُو حَنِيفَةَ  وَقِيلَ : هُوَ لِقُرْبَى مَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ  كَمَا رُوِيَ عَنْهُ : {   مَا  أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إلَّا  كَانَتْ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ   }  وَهَذَا قَوْلُ  أَبِي ثَوْرٍ  وَغَيْرِهِ .  وَقِيلَ : إنَّ  هَذَا  كَانَ مَأْخَذَ  عُثْمَانَ  فِي إعْطَاءِ   بَنِي أُمَيَّةَ  وَقِيلَ : هُوَ لِذَوِي قُرْبَى الرَّسُولِ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا .  ثُمَّ  مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ  كَمَا يَقُولُهُ  الشَّافِعِيُّ  وَأَحْمَد  فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ .  وَقِيلَ : بَلْ الْخُمُسُ وَالْفَيْءُ يُصْرَفُ  فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَلَا يُقْسَمُ  عَلَى أَجْزَاءٍ مُقَدَّرَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ  وَهَذَا قَوْلُ  مَالِكٍ  وَغَيْرِهِ . وَعَنْ  أَحْمَد  أَنَّهُ  جَعَلَ خُمُسَ الزَّكَاةِ فَيْئًا  وَعَلَى  هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ  وَسِيرَةُ   الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ  وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا :  أَنَّ بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ  وَإِنْ  كَانَ سَبَبُهُ أُمُورًا  كَانَتْ  فِي   الْعَرَبِ  فَحُكْمُ الْآيَاتِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَاتُ لَفْظًا  وَمَعْنًى  فِي  أَيِّ نَوْعٍ  كَانَ   وَمُحَمَّدٌ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ   . وَجَمَاهِيرُ الْأُمَمِ يُقِرُّ بِالْجِنِّ  وَلَهُمْ مَعَهُمْ  وَقَائِعُ يَطُولُ وَصْفُهَا وَلَمْ يُنْكِرْ الْجِنَّ إلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ  مِنْ جُهَّالِ   الْمُتَفَلْسِفَةِ  وَالْأَطِبَّاءِ  وَنَحْوِهِمْ  وَأَمَّا  أَكَابِرُ الْقَوْمِ فَالْمَأْثُورُ عَنْهُمْ : إمَّا الْإِقْرَارُ بِهَا . وَإِمَّا أَنْ لَا يُحْكَى عَنْهُمْ  فِي  ذَلِكَ قَوْلٌ .  وَمِنْ الْمَعْرُوفِ عَنْ  بقراط  أَنَّهُ  قَالَ  فِي بَعْضِ الْمِيَاهِ : إنَّهُ يَنْفَعُ  مِنْ الصَّرْعِ لَسْت  أَعْنِي الَّذِي يُعَالِجُهُ أَصْحَابُ الْهَيَاكِلِ وَإِنَّمَا  أَعْنِي الصَّرْعَ الَّذِي يُعَالِجُهُ الْأَطِبَّاءُ .  وَأَنَّهُ  قَالَ : طِبُّنَا مَعَ طِبِّ أَهْلِ الْهَيَاكِلِ كَطِبِّ الْعَجَائِزِ مَعَ طِبِّنَا .  وَلَيْسَ لِمَنْ  أَنْكَرَ  ذَلِكَ حُجَّةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا تَدُلُّ  عَلَى النَّفْيِ وَإِنَّمَا مَعَهُ عَدَمُ الْعِلْمِ ; إذْ  كَانَتْ صِنَاعَتُهُ لَيْسَ  فِيهَا مَا يَدُلُّ  عَلَى  ذَلِكَ كَالطَّبِيبِ الَّذِي يَنْظُرُ  فِي الْبَدَنِ  مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمِزَاجِهِ وَلَيْسَ  فِي  هَذَا تَعَرُّضٌ لِمَا يَحْصُلُ  مِنْ جِهَةِ النَّفْسِ وَلَا  مِنْ جِهَةِ الْجِنِّ  وَإِنْ  كَانَ قَدْ عَلِمَ  مِنْ غَيْرِ طِبِّهِ  أَنَّ لِلنَّفْسِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا  فِي الْبَدَنِ أَعْظَمُ  مِنْ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ الطِّبِّيَّةِ  وَكَذَلِكَ لِلْجِنِّ تَأْثِيرٌ  فِي  ذَلِكَ  كَمَا  قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :   {   إنَّ  الشَّيْطَانَ يَجْرِي  مِنْ  ابْنِ  آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ   }  وَفِي الدَّمِ الَّذِي هُوَ الْبُخَارُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ الرُّوحَ الْحَيَوَانِيَّ الْمُنْبَعِثُ  مِنْ الْقَلْبِ  السَّارِي  فِي الْبَدَنِ الَّذِي  بِهِ حَيَاةُ الْبَدَنِ  كَمَا قَدْ بُسِطَ  هَذَا  فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمُرَادُ هُنَا  أَنَّ   مُحَمَّدًا   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أُرْسِلَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقَدْ  أَخْبَرَ اللَّهُ  فِي الْقُرْآنِ  أَنَّ الْجِنَّ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ  وَأَنَّهُمْ آمَنُوا  بِهِ  كَمَا  قَالَ تَعَالَى : {   وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ  فَلَمَّا حَضَرُوهُ  قَالُوا أَنْصِتُوا   }  إلَى قَوْلِهِ :   {   أُولَئِكَ  فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ   }  ثُمَّ  أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ  بِذَلِكَ  فَقَالَ تَعَالَى : {   قُلْ  أُوحِيَ إلَيَّ  أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ  فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا   }  إلَخْ  فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ  ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْإِنْسُ بِأَحْوَالِ الْجِنِّ  وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ; لِمَا  فِي  ذَلِكَ  مِنْ هَدْيِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ  مِنْ  الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا يَجِبُ  مِنْ طَاعَةِ رُسُلِهِ  وَمِنْ تَحْرِيمِ الشِّرْكِ بِالْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ  كَمَا  قَالَ  فِي السُّورَةِ : {  وَأَنَّهُ  كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا   }  .  كَانَ الرَّجُلُ  مِنْ الْإِنْسِ يَنْزِلُ بِالْوَادِي - وَالْأَوْدِيَةُ مَظَانُّ الْجِنِّ ; فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِالْأَوْدِيَةِ  أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُونَ بِأَعَالِي الْأَرْضِ -  فَكَانَ الْإِنْسِيُّ يَقُولُ :  أَعُوذُ بِعَظِيمِ  هَذَا الْوَادِي  مِنْ سُفَهَائِهِ  فَلَمَّا رَأَتْ الْجِنُّ  أَنَّ الْإِنْسَ تَسْتَعِيذُ بِهَا  زَادَ طُغْيَانُهُمْ وَغَيْرُهُمْ وَبِهَذَا يُجِيبُونَ الْمُعَزِّمَ وَالرَّاقِيَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ فَإِنَّهُ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ بِأَسْمَاءِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ فَيَحْصُلُ  لَهُمْ  بِذَلِكَ  مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالشَّرَفِ  عَلَى الْإِنْسِ مَا يَحْمِلُهُمْ  عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ بَعْضَ سُؤْلِهِمْ لَا سِيَّمَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ  أَنَّ الْإِنْسَ أَشْرَفُ مِنْهُمْ وَأَعْظَمُ قَدْرًا فَإِذَا خَضَعَتْ الْإِنْسُ  لَهُمْ وَاسْتَعَاذَتْ بِهِمْ  كَانَ بِمَنْزِلَةِ  أَكَابِرِ النَّاسِ إذَا  خَضَعَ لِأَصَاغِرِهِمْ لِيَقْضِيَ لَهُ حَاجَتَهُ . ثُمَّ  الشَّيَاطِينُ مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ وَمَعَاصِي الرَّبِّ .  وَإِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ  مِنْ  الشَّيَاطِينِ يَشْتَهُونَ الشَّرَّ وَيَلْتَذُّونَ  بِهِ وَيَطْلُبُونَهُ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى خُبْثِ أَنْفُسِهِمْ  وَإِنْ  كَانَ مُوجِبًا لِعَذَابِهِمْ وَعَذَابِ مَنْ يُغْوُونَهُ  كَمَا  قَالَ إبْلِيسُ : {   فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ   }   {   إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ   }  وَقَالَ تَعَالَى :   {  قَالَ أَرَأَيْتَكَ  هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إلَى يَوْمِ  الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلَّا قَلِيلًا   }  وَقَالَ تَعَالَى :   {   وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ  ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلَّا  فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ   }  .  وَالْإِنْسَانُ إذَا  فَسَدَتْ نَفْسُهُ أَوْ مِزَاجُهُ يَشْتَهِي مَا يَضُرُّهُ وَيَلْتَذُّ  بِهِ  ; بَلْ يَعْشَقُ  ذَلِكَ عِشْقًا يُفْسِدُ عَقْلَهُ  وَدِينَهُ وَخُلُقَهُ وَبَدَنَهُ  وَمَالَهُ  وَالشَّيْطَانُ هُوَ نَفْسُهُ خَبِيثٌ فَإِذَا تَقَرَّبَ صَاحِبُ الْعَزَائِمِ وَالْأَقْسَامِ وَكُتُبِ الرُّوحَانِيَّاتِ السِّحْرِيَّةِ وَأَمْثَالُ  ذَلِكَ إلَيْهِمْ بِمَا يُحِبُّونَهُ  مِنْ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ  صَارَ  ذَلِكَ كَالرِّشْوَةِ وَالْبِرْطِيلِ  لَهُمْ فَيَقْضُونَ بَعْضَ أَغْرَاضِهِ كَمَنْ يُعْطِي غَيْرَهُ مَالًا لِيَقْتُلَ لَهُ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ أَوْ  يُعِينَهُ  عَلَى فَاحِشَةٍ أَوْ  يَنَالَ مَعَهُ فَاحِشَةً .  وَلِهَذَا كَثِيرٌ  مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَكْتُبُونَ  فِيهَا كَلَامَ اللَّهِ بِالنَّجَاسَةِ - وَقَدْ يَقْلِبُونَ حُرُوفَ  كَلَامِ اللَّهِ  عَزَّ  وَجَلَّ إمَّا حُرُوفُ الْفَاتِحَةِ وَإِمَّا حُرُوفُ {   قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ   }  وَأَمَّا غَيْرُهُمَا - إمَّا دَمٌ وَإِمَّا غَيْرُهُ وَإِمَّا بِغَيْرِ نَجَاسَةٍ . أَوْ يَكْتُبُونَ غَيْرَ  ذَلِكَ مِمَّا يَرْضَاهُ  الشَّيْطَانُ أَوْ يَتَكَلَّمُونَ  بِذَلِكَ . فَإِذَا  قَالُوا أَوْ كَتَبُوا مَا تَرْضَاهُ  الشَّيَاطِينُ  أَعَانَتْهُمْ  عَلَى بَعْضِ أَغْرَاضِهِمْ إمَّا تَغْوِيرُ  مَاءٍ  مِنْ الْمِيَاهِ وَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ  فِي الْهَوَاءِ إلَى بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَهُ  بِمَالٍ  مِنْ أَمْوَالِ بَعْضِ النَّاسِ  كَمَا تَسْرِقُهُ  الشَّيَاطِينُ  مِنْ أَمْوَالِ الْخَائِنِينَ وَمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ  وَتَأْتِي  بِهِ وَإِمَّا غَيْرُ  ذَلِكَ .  وَأَعْرِفُ  فِي كُلِّ نَوْعٍ  مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ  مِنْ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ وَمَنْ وَقَعَتْ لَهُ مِمَّنْ أَعْرِفُهُ مَا يَطُولُ حِكَايَتُهُ ; فَإِنَّهُمْ كَثِيرُونَ جِدًّا .  وَالْمَقْصُودُ  أَنَّ   مُحَمَّدًا   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إلَى الثَّقَلَيْنِ وَاسْتَمَعَ الْجِنُّ  لِقِرَاءَتِهِ وَوَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ  كَمَا  أَخْبَرَ اللَّهُ  عَزَّ  وَجَلَّ  وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ  .  ثُمَّ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ  مِنْ   الصَّحَابَةِ   وَالتَّابِعِينَ  وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ :  أَنَّهُمْ  جَاءُوهُ بَعْدَ  هَذَا وَإِنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَبَايَعُوهُ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ  لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ  فَقَالَ  لَهُمْ : {   لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ  ذُكِرَ  اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَعُودُ  أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَلَكُمْ كُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ  قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ  مِنْ الْجِنِّ   }  وَهَذَا ثَابِتٌ  فِي   صَحِيحِ  مُسْلِمٍ  وَغَيْرِهِ  مِنْ حَدِيثِ  ابْنِ مَسْعُودٍ  . وَقَدْ  ثَبَتَ  فِي   صَحِيحِ  الْبُخَارِيِّ  وَغَيْرِهِ  مِنْ حَدِيثِ  أَبِي هُرَيْرَةَ   {   نَهْيُهُ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ   }  فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ  وَفِي   صَحِيحِ  مُسْلِمٍ  وَغَيْرِهِ   {   عَنْ  سَلْمَانَ  قَالَ :  قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ  قَالَ :  فَقَالَ : أَجَلْ لَقَدْ  نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ  بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ وَأَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ وَأَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ  مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَأَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ   }  .  وَفِي   صَحِيحِ  مُسْلِمٍ  وَغَيْرِهِ أَيْضًا عَنْ  جَابِرٍ  قَالَ :   {  نَهَى رَسُولُ اللَّهِ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَمَسَّحَ بِعَظْمٍ أَوْ بِبَعْرٍ   }  وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ  ذَلِكَ  فِي حَدِيثِ  خزيمة بْنِ ثَابِتٍ  وَغَيْرِهِ . وَقَدْ بَيَّنَ عِلَّةَ  ذَلِكَ  فِي حَدِيثِ  ابْنِ مَسْعُودٍ  فَفِي   صَحِيحِ  مُسْلِمٍ  وَغَيْرِهِ عَنْ  ابْنِ مَسْعُودٍ  أَنَّ النَّبِيَّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قَالَ :   {  أَتَانِي  دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْت مَعَهُ فَقَرَأْت عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ  قَالَ : فَانْطَلَقَ بِنَا  فَأَرَانَا  آثَارَهُمْ وَآثَارَ  نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ  فَقَالَ : لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ  اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ  فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ   }  .  فِي   صَحِيحِ  الْبُخَارِيِّ  وَغَيْرِهِ عَنْ  أَبِي هُرَيْرَةَ   {  أَنَّهُ  كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إدَاوَةً لِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَّبِعُهُ بِهَا  قَالَ : مَنْ  هَذَا ؟ قُلْت :  أَبُو هُرَيْرَةَ  قَالَ : ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسَتَنْفُضُ بِهَا وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْته بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا  فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتهَا إلَى جَنْبِهِ  ثُمَّ انْصَرَفْت حَتَّى إذَا فَرَغَ مَشَيْت فَقُلْت : مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ ؟  قَالَ : هُمَا  مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ  أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نصيبين - وَنِعْمَ الْجِنُّ - فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْت اللَّهَ  لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمِ وَلَا رَوْثَةٍ إلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا   }  .  وَلَمَّا  نَهَى النَّبِيُّ   صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ   الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا يُفْسِدُ طَعَامَ الْجِنِّ وَطَعَامَ دَوَابِّهِمْ  كَانَ  هَذَا تَنْبِيهًا  عَلَى النَّهْيِ  عَمَّا يُفْسِدُ طَعَامَ الْإِنْسِ وَطَعَامَ دَوَابِّهِمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى  لَكِنَّ كَرَاهَةَ  هَذَا وَالنُّفُورَ عَنْهُ ظَاهِرٌ  فِي فِطَرِ النَّاسِ بِخِلَافِ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ نَجَاسَةُ طَعَامِ الْجِنِّ ; فَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ . وَقَدْ  ثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ  أَنَّهُ خَاطَبَ الْجِنَّ وَخَاطَبُوهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ  وَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ الزَّادَ .  وَقَدْ  ثَبَتَ  فِي   الصَّحِيحَيْنِ   عَنْ  ابْنِ عَبَّاسٍ  أَنَّهُ  كَانَ يَقُولُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  لَمْ يَرَ الْجِنَّ وَلَا خَاطَبَهُمْ وَلَكِنْ  أَخْبَرَهُ  أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْقُرْآنَ  وَابْنُ عَبَّاسٍ  قَدْ عَلِمَ مَا  دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ  مِنْ  ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا عَلِمَهُ  ابْنُ مَسْعُودٍ  وَأَبُو هُرَيْرَةَ  وَغَيْرُهُمَا  مِنْ إتْيَانِ الْجِنِّ إلَيْهِ  وَمُخَاطَبَتِهِ إيَّاهُمْ  وَأَنَّهُ  أَخْبَرَهُ  بِذَلِكَ  فِي الْقُرْآنِ  وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ  بِهِ  وَكَانَ  ذَلِكَ  فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ  لَمَّا حُرِسَتْ السَّمَاءُ  وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَمُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا  وَكَانَ  فِي  ذَلِكَ  مِنْ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ مَا  فِيهِ عِبْرَةٌ  كَمَا قَدْ بُسِطَ  فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَعْدَ  هَذَا  أَتَوْهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَرُوِيَ  أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ  وَصَارَ كُلَّمَا  قَالَ : {   فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ   }  قَالُوا : وَلَا بِشَيْءٍ  مِنْ  آلَائِك  رَبَّنَا نُكَذِّبُ  فَلَك الْحَمْدُ .  وَقَدْ  ذَكَرَ اللَّهُ  فِي الْقُرْآنِ  مِنْ خِطَابِ الثَّقَلَيْنِ مَا يُبَيِّنُ  هَذَا الْأَصْلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {   يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ  لِقَاءَ يَوْمِكُمْ  هَذَا  قَالُوا شَهِدْنَا  عَلَى أَنْفُسِنَا   }  وَقَدْ  أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْجِنِّ  أَنَّهُمْ  قَالُوا : {  وَأَنَّا  مِنَّا الصَّالِحُونَ  وَمِنَّا  دُونَ  ذَلِكَ  كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا   }  أَيْ : مَذَاهِبَ  شَتَّى : مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ ; وَأَهْلُ سُنَّةٍ وَأَهْلُ بِدْعَةٍ  وَقَالُوا : {  وَأَنَّا  مِنَّا الْمُسْلِمُونَ  وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ  أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ  تَحَرَّوْا رَشَدًا   }   {  وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ  فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا   }  وَالْقَاسِطُ :  الْجَائِرُ  يُقَالُ :  قَسَطَ إذَا  جَارَ  وَأَقْسَطَ إذَا عَدَلَ .  وَكَافِرُهُمْ مُعَذَّبٌ  فِي الْآخِرَةِ  بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ  .  وَأَمَّا مُؤْمِنُهُمْ فَجُمْهُورُ  الْعُلَمَاءِ  عَلَى  أَنَّهُ  فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ رُوِيَ : "  أَنَّهُمْ يَكُونُونَ  فِي رُبَضِ الْجَنَّةِ تَرَاهُمْ الْإِنْسُ  مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ " .  وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنْ  مَالِكٍ  وَالشَّافِعِيِّ  وَأَحْمَد  وَأَبِي يُوسُفَ  وَمُحَمَّدٍ  .  وَقِيلَ : إنَّ ثَوَابَهُمْ النَّجَاةُ  مِنْ النَّارِ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ  أَبِي حَنِيفَةَ  . وَقَدْ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ :   {   لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ   }  قَالُوا :  فَدَلَّ  ذَلِكَ  عَلَى تَأَتِّي الطَّمْثِ مِنْهُمْ لِأَنَّ طَمْثَ الْحُورِ الْعِينِ إنَّمَا يَكُونُ  فِي الْجَنَّةِ .