مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَأَمَّا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ لَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ حَقٌّ ; فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رُسُلَهُ بِالْعَدْلِ وَأَنْزَلَ الْمِيزَانَ مَعَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانُ يَتَضَمَّنُ الْعَدْلَ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ وَقَدْ فَسَّرُوا إنْزَالَ ذَلِكَ بِأَنْ أَلْهَمَ الْعِبَادَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ . وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَبَيَّنَ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ وَهِيَ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ مَا بَيَّنَهُ مِنْ الْحَقِّ لَكِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يُطَابِقُ النَّصَّ فَإِنَّ الْمِيزَانَ يُطَابِقُ الْكِتَابَ وَاَللَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ فَهُوَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } وَأَمَّا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَهُوَ حَقٌّ لَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - عَلَى ضَلَالَةٍ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وَهَذَا وَصْفٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ كَمَا وُصِفَ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَبِذَلِكَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } فَلَوْ قَالَتْ الْأُمَّةُ فِي الدِّينِ بِمَا هُوَ ضَلَالٌ لَكَانَتْ لَمْ تَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ تَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وَالْوَسَطَ الْعَدْلَ الْخِيَارَ وَقَدْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَأَقَامَ شَهَادَتَهُمْ مَقَامَ شَهَادَةِ الرَّسُولِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَوْلُك وَجَبَتْ وَجَبَتْ ؟ قَالَ : هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت : وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت : وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } . فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ قَدْ جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ لَمْ يَشْهَدُوا بِبَاطِلِ فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِشَيْءٍ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ نَهَى عَنْهُ وَلَوْ كَانُوا يَشْهَدُونَ بِبَاطِلٍ أَوْ خَطَأٍ لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ بَلْ زَكَّاهُمْ اللَّهُ فِي شَهَادَتِهِمْ كَمَا زَكَّى الْأَنْبِيَاءَ فِيمَا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ عَلَيْهِ إلَّا الْحَقَّ وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ لَا تَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ إلَّا بِحَقٍّ وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَالْأُمَّةُ مُنِيبَةٌ إلَى اللَّهِ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهَا وَقَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } فَرَضِيَ عَمَّنْ اتَّبَعَ السَّابِقِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَابِعَهُمْ عَامِلٌ بِمَا يَرْضَى اللَّهُ وَاَللَّهُ لَا يَرْضَى إلَّا بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ كَلِمَاتٍ كَانَ مَالِكٌ يَأْثُرُهَا عَنْهُ كَثِيرًا قَالَ : سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِعْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَمَعُونَةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا فَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ كَمَا كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَمَالِكٌ ذَكَرَ عَنْ عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُتَّبِعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ كَمَا أَنَّ مُشَاقَّ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُوجِبُ الْوَعِيدَ بِمُجَرَّدِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوَصْفُ الْآخَرُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لَكَانَ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ . وَهُنَا لِلنَّاسِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ بِمُجَرَّدِ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ . وَقِيلَ : بَلْ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالذَّمِّ فَكَذَلِكَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِهِمْ مُسْتَقِلٌّ بِالذَّمِّ وَقِيلَ : بَلْ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يُوجِبُ الذَّمَّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ الْأَوَّلِ بَلْ قَدْ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ فَكُلُّ مُتَابِعٍ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُشَاقٌّ لِلرَّسُولِ وَكَذَلِكَ مُشَاقُّ الرَّسُولِ مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا كَمَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَطَاعَةَ الرَّسُولِ وَاجِبَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ مُوجِبٌ لِلذَّمِّ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ; وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي ; وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ; وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي } وَقَالَ : { إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ } يَعْنِي : إذَا أَمَرَ أَمِيرِي بِالْمَعْرُوفِ فَطَاعَتُهُ مِنْ طَاعَتِي وَكُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ عَصَى الرَّسُولَ ; فَإِنَّ الرَّسُولَ يَأْمُرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بَلْ مَنْ أَطَاعَ رَسُولًا وَاحِدًا فَقَدْ أَطَاعَ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ آمَنَ بِالْجَمِيعِ وَمَنْ عَصَى وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَدْ عَصَى الْجَمِيعَ وَمَنْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَّبَ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يُصَدِّقُ الْآخَرَ وَيَقُولُ : إنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ وَيَأْمُرُ بِطَاعَتِهِ فَمَنْ كَذَّبَ رَسُولًا فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِي صَدَّقَهُ وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى مَنْ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا مُعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . وَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ الْإِسْلَامُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَهُوَ : الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَطَاعَةُ كُلِّ نَبِيٍّ هِيَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إذْ ذَاكَ وَاسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ النَّسْخِ ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ صَارَ اسْتِقْبَالُهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْقَ اسْتِقْبَالُ الصَّخْرَةَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ; وَلِهَذَا خَرَجَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَتَصْدِيقَ رَسُولِهِ واعتاضوا عَنْ ذَلِكَ بِمُبَدَّلٍ أَوْ مَنْسُوخٍ . وَهَكَذَا كُلُّ مُبْتَدِعٍ دِينًا خَالَفَ بِهِ سُنَّةَ الرَّسُولِ لَا يَتَّبِعُ إلَّا دِينًا مُبَدَّلًا أَوْ مَنْسُوخًا فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ كَانَ مَشْرُوعًا لِنَبِيٍّ ثُمَّ نُسِخَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شُرِعَ قَطُّ ; فَهَذَا كَالْأَدْيَانِ الَّتِي شَرَعَهَا الشَّيَاطِينُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلِيَائِهِمْ قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَقَالَ : . { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وَقَالَ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ بِرَأْيِهِ شَيْئًا يَقُولُ : إنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ ; وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ ; فَإِنَّهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ لَا يَكُونَ ; وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ غَيْرِهِ ; وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَهَذَا الثَّالِثُ الْمُبَدَّلُ كَأَدْيَانِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَمَا كَانَ شَرْعًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ لَا يُوَافِقُ شَرْعَهُ فَقَدْ نُسِخَ كَالسَّبْتِ وَتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي ظُفُرٍ وَشَحْمِ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَيْنِ ; فَإِنَّ اتِّخَاذَ السَّبْتِ عِيدًا وَتَحْرِيمَ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ قَدْ كَانَ شَرْعًا لِمُوسَى ثُمَّ نُسِخَ ; بَلْ قَدْ قَالَ الْمَسِيحُ : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } فَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ بَعْضَ مَا كَانَ حَرَامًا فِي شَرْعِ مُوسَى . وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وَالشِّرْكُ كُلُّهُ مِنْ الْمُبَدَّلِ لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ الشِّرْكَ قَطُّ كَمَا قَالَ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . وَكَذَلِكَ مَا كَانَ يُحَرِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ كَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ والحام وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الدِّينِ الْمُبَدَّلِ ; وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَذَكَرَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى لِسَانِ مُوسَى فِي الْأَنْعَامِ فَقَالَ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ } . فَبَيَّنَ أَنَّ مَا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَلَا لِسَانِ مُحَمَّدٍ وَهَذَانِ هُمَا اللَّذَانِ جَاءَا بِكِتَابٍ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } إلَى قَوْلِهِ : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } وَقَالَتْ الْجِنُّ لَمَّا سَمِعَتْ الْقُرْآنَ : { إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ . وَكَذَلِكَ قَالَ النَّجَاشِيُّ . فَالْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ هُمَا كِتَابَانِ جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَأْتِ مِنْ عِنْدِهِ كِتَابٌ أَهْدَى مِنْهُمَا كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ وَاَلَّذِي فِيهِمَا دِينٌ وَاحِدٌ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَفِيهِ التَّوْحِيدُ قَوْلًا وَعَمَلًا كَمَا فِي سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَأَمَّا الزَّبُورُ فَإِنَّ داود لَمْ يَأْتِ بِغَيْرِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَإِنَّمَا فِي الزَّبُورِ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَدُعَاءٌ وَأَمْرٌ وَنَهْيٌ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ مُطْلَقًا . وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَإِنَّهُ قَالَ : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } فَأَحَلَّ لَهُمْ بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ فِي الْأَكْثَرِ مُتَّبِعٌ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِمَنْ اتَّبَعَ الْمَسِيحَ مِنْ أَنْ يَقْرَأَ التَّوْرَاةَ وَيَتَّبِعَ مَا فِيهَا ; إذْ كَانَ الْإِنْجِيلُ تَبَعًا لَهَا . وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَمْ يحوج أَصْحَابَهُ إلَى كِتَابٍ آخَرَ بَلْ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الْكُتُبِ مِنْ الْمَحَاسِنِ ; وَعَلَى زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا تُوجَدُ فِي الْكُتُبِ ; فَلِهَذَا كَانَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ يُقَرِّرُ مَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ وَيُبْطِلُ مَا حُرِّفَ مِنْهَا وَيَنْسَخُ مَا نَسَخَهُ اللَّهُ فَيُقَرِّرُ الدِّينَ الْحَقَّ وَهُوَ جُمْهُورُ مَا فِيهَا وَيُبْطِلُ الدِّينَ الْمُبَدَّلَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَالْقَلِيلَ الَّذِي نُسِخَ فِيهَا ; فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ قَلِيلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُحْكَمِ الْمُقَرَّرِ . وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَتَصْدِيقُ بَعْضِهِمْ مُسْتَلْزِمٌ تَصْدِيقَ سَائِرِهِمْ وَطَاعَةُ بَعْضِهِمْ تَسْتَلْزِمُ طَاعَةَ سَائِرِهِمْ وَكَذَلِكَ التَّكْذِيبُ وَالْمَعْصِيَةُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَذِّبَ نَبِيٌّ نَبِيًّا بَلْ إنْ عَرَفَهُ صَدَّقَهُ وَإِلَّا فَهُوَ يَصْدُقُ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مُطْلَقًا وَهُوَ يَأْمُرُ بِطَاعَةِ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ صَدَّقَ مُحَمَّدًا فَقَدْ صَدَّقَ كُلَّ نَبِيٍّ ; وَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ كُلَّ نَبِيٍّ وَمَنْ كَذَّبَهُ فَقَدْ كَذَّبَ كُلَّ نَبِيٍّ ; وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى كُلَّ نَبِيٍّ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } . وَمَنْ كَذَّبَ هَؤُلَاءِ تَكْذِيبًا بِجِنْسِ الرِّسَالَةِ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يُكَذِّبُ الْجَمِيعَ ; وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } وَلَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِمْ قَبْلَ نُوحٍ أَحَدًا وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ } . وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ والمتفلسفة طَاعِنًا فِي جِنْسِ الرُّسُلِ كَمَا قَدَّمْنَا بِأَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا الْحَقَّ أَوْ لَمْ يُبَيِّنُوهُ فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ كَاَلَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } { إذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ } { فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْوَلِيدِ : { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ نَظَرَ } { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } . وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِجِنْسِ الرِّسَالَةِ لَكِنْ يَكْذِبُ بَعْضُ الرُّسُلِ كَالْمَسِيحِ وَمُحَمَّدٍ فَهَؤُلَاءِ لَمَّا آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ كَانُوا كَافِرِينَ حَقًّا وَكَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ لَا يُكَذِّبُ الرُّسُلَ تَكْذِيبًا صَرِيحًا وَلَا يُؤْمِنُ بِحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بَلْ يُقِرُّ بِفَضْلِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ كَوْنِهِ يَقُولُ : إنَّ غَيْرَهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ ; أَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَيِّنُوا الْحَقَّ أَوْ لَبَّسُوهُ ; أَوْ إنَّ النُّبُوَّةَ هِيَ فَيْضٌ يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ مِنْ جِنْسِ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ وَلَا يُقِرُّ بِمَلَائِكَةٍ مُفَضَّلِينَ وَلَا بِالْجِنِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ بَعْضٍ ; وَبِمَا أُوتُوهُ دُونَ بَعْضٍ وَلَا يُقِرُّونَ بِجَمِيعِ مَا أُوتِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ شَرًّا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَقَرُّوا بِجَمِيعِ صِفَاتِ النُّبُوَّةِ لَكِنْ كَذَّبُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ ; فَإِنَّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ هَؤُلَاءِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ ; إذْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَيُقِرُّونَ بِقِيَامِ الْقِيَامَةِ وَيُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَجِبُ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُقِرُّونَ بِالشَّرَائِعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا . وَأُولَئِكَ يُكَذِّبُونَ بِهَذَا وَإِنَّمَا يُقِرُّونَ بِبَعْضِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِهَذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَقَلَّ كُفْرًا مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ والمتفلسفة وَنَحْوِهِمْ لَكِنْ مَنْ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ دَخَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ فَقَدْ جَمَعَ نَوْعَيْ الْكُفْرِ ; إذْ لَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِمْ وَلَا بِجَمِيعِ أَعْيَانِهِمْ وَهَؤُلَاءِ مَوْجُودُونَ فِي دُوَلِ الْكُفَّارِ كَثِيرًا كَمَا يُوجَدُ أَيْضًا فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إذْ كَانُوا فِي دَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا مُنَافِقِينَ فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقُ يَتَبَعَّضُ وَالْكُفْرُ يَتَبَعَّضُ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَبَعَّضُ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } وَقَالَ : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } وَقَالَ : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَقَالَ : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } وَقَالَ : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } وَقَالَ : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْكَلَامِ لَا يَرُدُّونَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَاب إلَّا مَا يَقُولُونَ : إنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مِثْلَ تَثْلِيثِ النَّصَارَى وَمِثْلَ تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ وَلَا يُنَاظِرُونَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَهَذَا تَقْصِيرٌ مِنْهُمْ وَمُخَالَفَةٌ لِطَرِيقَةِ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ اللَّهَ يُبَيِّنُ فِي الْقُرْآنِ مَا خَالَفُوا بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَيَذُمُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ ; إذْ كَانَ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَإِذَا تَبَيَّنَ مَا خَالَفُوا فِيهِ الْأَنْبِيَاءَ ظَهَرَ كُفْرُهُمْ . وَأُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ لَمَّا أَصَّلُوا لَهُمْ دِينًا بِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْكَلَامِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا هُوَ أُصُولُ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوهُ حَقًّا لَكَانَ ذَلِكَ جُزْءًا مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ بَاطِلًا ؟ وَقَدْ ذَكَرْت فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ مَا يَظْهَرُ بِهِ مِنْ كُفْرِهِمْ مَا يَظْهَرُ ; وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ " الْجَوَابُ الصَّحِيحُ لِمَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ " وَخِطَابُهُمْ فِي مَقَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَبْدِيلُهُمْ لِدِينِ الْمَسِيحِ . وَالثَّانِي : تَكْذِيبُهُمْ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْيَهُودُ خِطَابُهُمْ فِي تَكْذِيبِ مَنْ بَعْدَ مُوسَى إلَى الْمَسِيحِ ثُمَّ فِي تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } ثُمَّ قَالَ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } إلَى أَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ مُطْلَقًا وَاتَّبَعُوا السِّحْرَ . فَقَالَ : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . وَالنَّصَارَى نَذُمُّهُمْ عَلَى الْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ وَعَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ والرهبانية الَّتِي ابْتَدَعُوهَا وَلَا نَحْمَدُهُمْ عَلَيْهَا إذْ كَانُوا قَدْ ابْتَدَعُوهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ لَكِنْ إذَا كَانَ صَاحِبُهَا قَاصِدًا لِلْحَقِّ فَقَدْ يُعْفَى عَنْهُ فَيَبْقَى عَمَلُهُ ضَائِعًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ الَّذِي يُعْذَرُ صَاحِبُهُ فَلَا يُعَاقَبُ وَلَا يُثَابُ ; وَلِهَذَا قَالَ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَإِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ يُعَاقَبُ بِنَفْسِ الْغَضَبِ وَالضَّالَّ فَاتَهُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَالثَّوَابُ وَلَكِنْ قَدْ لَا يُعَاقَبُ كَمَا عُوقِبَ ذَلِكَ بَلْ يَكُونُ مَلْعُونًا مَطْرُودًا وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نفيل : أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَهُ : لَنْ تَدْخُلَ فِي دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ نَصِيبَك مِنْ غَضَبِ اللَّهِ . وَقَالَ لَهُ النَّصَارَى : حَتَّى تَأْخُذَ نَصِيبَك مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَطَائِفَةٌ : إنَّ جَهَنَّمَ طَبَقَاتٌ فَالْعُلْيَا لِعُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا لِلنَّصَارَى وَاَلَّتِي تَلِيهَا لِلْيَهُودِ . فَجَعَلُوا الْيَهُودَ تَحْتَ النَّصَارَى وَالْقُرْآنُ قَدْ شَهِدَ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ يُوجِدُونَ أَشَدَّ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّا نَصَارَى وَشِدَّةُ الْعَدَاوَةِ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ فَالْيَهُودُ أَقْوَى كُفْرًا مِنْ النَّصَارَى وَإِنْ كَانَ النَّصَارَى أَجْهَلَ وَأَضَلَّ لَكِنَّ أُولَئِكَ يُعَاقَبُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ إذْ كَانُوا عَرَفُوا الْحَقَّ وَتَرَكُوهُ عِنَادًا فَكَانُوا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ وَهَؤُلَاءِ بِالضَّلَالِ حُرِمُوا أَجْرَ الْمُهْتَدِينَ وَلُعِنُوا وَطُرِدُوا عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُهْتَدُونَ ثُمَّ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ إذْ كَانَ اسْمُ الضَّلَالِ عَامًّا . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ : خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَلَمْ يَقُلْ : وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ بَلْ يَضِلُّ عَنْ الْحَقِّ مَنْ قَصَدَ الْحَقَّ وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَعَجَزَ عَنْهُ فَلَا يُعَاقَبُ وَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ الَّذِي ضَلَّ فِيهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مَغْفُورٌ لَهُ . وَكَثِيرٌ مِنْ مُجْتَهِدِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَدْ قَالُوا وَفَعَلُوا مَا هُوَ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ بِدْعَةٌ إمَّا لِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ظَنُّوهَا صَحِيحَةً وَإِمَّا لِآيَاتِ فَهِمُوا مِنْهَا مَا لَمْ يُرَدْ مِنْهَا وَإِمَّا لِرَأْيٍ رَأَوْهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُصُوصٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ . وَإِذَا اتَّقَى الرَّجُلُ رَبَّهُ مَا اسْتَطَاعَ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : " قَدْ فَعَلْت " وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .