تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ الزِّيَارَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ حَتَّى يَحْتَجَّ عَلَيْهَا بِزِيَارَةِ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَزِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ مَنْ حَرَّمَ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَسَائِرِ الْقُبُورِ مُجَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ مُظْهِرًا لَهُمْ الْعِنَادَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ : كَمَالِكِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ والجويني أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِ أَحْمَد . فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ مُجَاهِرِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدِينَ لَهُمْ : وَهَذَا لَوْ قَالَهُ فِيمَا أَخْطَئُوا فِيهِ لَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ ; فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ الرَّسُولَ وَاتَّبَعُوا فِيهِ سُنَّتَهُ الصَّحِيحَةَ فَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَ . فَقَدْ جَعَلَ الْمُطِيعَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي رَضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ عَمَلَهُ مُجَاهِرًا لَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدًا لَهُمْ . فِي كُفْرِ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِيمَانِهِ . وَمِثْلُ هَذَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ بِكُفْرِ بَلْ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ سَائِغٌ وَقَائِلُهُ مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَبَيَّنَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ : فَأَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَمَنْ جَعَلَ اعْتِقَادَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ مُعَادَاةً لِلْمَسِيحِ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ قَالَ : لَا تَحْلِفْ بِالْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ عَادَاهُمْ وَكَفَرَ ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يُسْتَتَابُ . وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا مَالِكٌ إمَامُهُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي كُتُبِهِمْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَهُوَ لَمْ يُعْرَفْ مِمَّا قَالُوا بَلْ يَكْفُرُ وَيُلْعَنُ وَيُشْتَمُ مَنْ قَالَ بِنَفْسِ الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ فَيَلْزَمُهُ تَكْفِيرُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ . وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : وَرَدَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَغَيْرُهَا مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ ; لَكِنَّهَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ . وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا مَا قَالَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرافضي الَّذِي يَقُولُ : قَدْ رُوِيَ فِي النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ الْإِمَامُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأُخَرُ دُونَهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ زِيَارَةِ قَبْرِهِ لَمْ يُخَرِّجْ شَيْئًا مِنْهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَلَا السُّنَنِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا : كَسُنَنِ أَبِي داود وَالتِّرْمِذِيِّ ; وَلَا الْمَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ : كَمُسْنَدِ أَحْمَد . وَلَا اسْتَدَلَّ بِشَيْءِ مِنْهَا إمَامٌ ; وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْزُوَهُ إلَى كِتَابٍ . وَقَوْلُهُ : إنَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ مِنْهَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا . إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ حَسَنَةً عِنْدَ مَنْ قَسَّمَ الْحَدِيثَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ وَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِحُسْنِهَا وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يَحْكُمُوا بِذَلِكَ وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ . فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ فِي الدِّينِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : بِأَنْ يُدْخِلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ ; بَلْ حَكَمُوا بِأَنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .