تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَمَنْ سَافَرَ إلَى بُقْعَةٍ غَيْرِ بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهَا وَدَعَا غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ جَعَلَ نُسُكَهُ وَصَلَاتَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ ; إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ خَاصِّيَّةٌ تَسْتَحِقُّ السَّفَرَ إلَيْهِ وَلَا شَرَعَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ السَّفَرَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ مِنْهَا بَنَاهُ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَدَعَا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهِ فَلَهَا خَصَائِصُ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا . فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إلَى بُيُوتِ اللَّهِ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ إلَى بُيُوتِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ تُتَّخَذُ قُبُورُهُمْ مَسَاجِدُ وَأَوْثَانًا وَأَعْيَادًا وَيُشْرَكُ بِهَا وَتُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْ مُعَظِّمِيهَا يُفَضِّلُ الْحَجَّ إلَيْهَا عَلَى الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَيَجْعَلُ الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ أَفْضَلَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا إنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا } { لَعَنَهُ اللَّهُ } وَكَانَتْ لَهَا شَيَاطِينُ تُكَلِّمُهُمْ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي كُلِّ صَنَمٍ شَيْطَانٌ يَتَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ وَيُكَلِّمُهُمْ . وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ : مَعَ كُلِّ صَنَمٍ جِنِّيَّةٌ . وَقَدْ قِيلَ : الْإِنَاثُ هِيَ الْمَوَاتُ . وَعَنْ الْحَسَنِ : كُلُّ شَيْءٍ لَا رُوحَ فِيهِ كَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ فَهُوَ إنَاثٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَالْمَوَاتُ كُلُّهَا يُخْبَرُ عَنْهَا كَمَا يُخْبَرُ مِنْ الْمُؤَنَّثِ . فَتَقُولُ فِي ذَلِكَ : الْأَحْجَارُ تُعْجِبُنِي وَالدَّرَاهِمُ تَنْفَعُك . وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْمَوَاتِ بَلْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ . تَعَالَى يُجْمَعُ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ فَيُقَالُ : الْمَلَائِكَةُ وَيُقَالُ لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ : آلِهَةٌ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } هِيَ أَوْثَانٌ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ قَالَ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ . } فَالْآلِهَةُ الْمَعْبُودَةُ مَنْ دُونِ اللَّهِ كُلُّهَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَهِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُتَّخَذُ مَنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ أَسْمَاءً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَرَوْنَهُمْ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ تَمَاثِيلَ صَوَّرُوهَا عَلَى مِثَالِ صُوَرِهِمْ وَهِيَ مِنْ تُرَابٍ وَحَجَرٍ وَخَشَبٍ فَهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَوَاتَ . وَفِي الصَّحِيحِ - صَحِيحِ مُسْلِمٍ - عَنْ أَبِي الهياج الأسدي قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَنِي أَنْ لَا أَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } وَجَمِيعُ الْأَمْوَاتِ لَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ . فَلَا يَعْلَمُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ . وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } وَكَأَنَّ النَّاسَ مَا سَمِعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ } فَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا وَهُوَ يَتْلُوهَا . وَالنَّاسُ تَغِيبُ عَنْهُمْ مَعَانِي الْقُرْآنِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ فَإِذَا ذُكِّرُوا بِهَا عَرَفُوهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } { تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } أَيْ قِسْمَةٌ جَائِرَةٌ عَوْجَاءُ إذْ تَجْعَلُونَ لَكُمْ مَا تُحِبُّونَ وَهُمْ الذُّكُورُ وَتَجْعَلُونَ لِي الْإِنَاثَ وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ حَيْثُ جَعَلُوا لَهُ أَوْلَادًا إنَاثًا وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ أَحَدِهِمْ أُنْثَى . كَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ وَلَدًا وَيُجِلُّونَ الرَّاهِبَ الْكَبِيرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ . وَأَمَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } فَسَّرَهَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْكَلْبِيُّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : هَذِهِ الْأَصْنَامُ بَنَاتُ اللَّهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ إنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى . بَعْدَ هَذَا : { إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } وَقَالَ : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } فَإِنَّ الْوَلَدَ يُمَاثِلُ أَبَاهُ وَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ يُمَاثِلُ شَرِيكَهُ فَهُمْ ضَرَبُوا الْإِنَاثَ مَثَلًا وَهُمْ جَعَلُوا هَذِهِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَكَانُوا يَجْعَلُونَهَا أَنْدَادًا لِلَّهِ وَالشَّرِيكُ كَالْأَخِ فَجَعَلُوا لَهُ أَوْلَادًا إنَاثًا وَشُرَكَاءَ إنَاثًا فَجَعَلُوا لَهُ بَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ وَهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمْ أُنْثَى لَا بِنْتٌ وَلَا أُخْتٌ ; بَلْ إذَا كَانَ الْأَبُ يَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ بِنْتٌ فَالْأُخْتُ أَشَدُّ كَرَاهَةً لَهُ مِنْهَا . وَلَمْ يَكُونُوا يُورِثُونَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ . فَتَبَيَّنَ فَرْطُ جَهْلِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إذْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَتْ أَنْفُسُهُمْ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَهَذَا كَمَا ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فَقَالَ تَعَالَى : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . فَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُ أَحَدِهِمْ شَرِيكَهُ وَقَدْ جَعَلُوا مَمْلُوكِي الرَّبِّ شُرَكَاءَ لَهُ فَجَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَمِنْ الْأَوْلَادِ : لَا يَرْضَوْنَ مَمْلُوكِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ وَقَدْ جَعَلُوهُمْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَلَا يَرْضَوْنَ مِنْ الْأَوْلَادِ بِالْإِنَاثِ فَلَا يَرْضَوْنَهَا وَلَدًا وَلَا نَظِيرًا وَهُمْ جَعَلُوا الْإِنَاثَ لِلَّهِ أَوْلَادًا وَنُظَرَاءَ . وَالنُّكْتَةُ أَنَّ اللَّهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَعْلَى وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَةِ يُنَزَّهُ عَنْهَا الْمَخْلُوقُ كَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ فَقِيرٌ وَإِنَّهُ بَخِيلٌ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ لَا يُوصَفُ إلَّا بِالسُّلُوبِ أَوْ لَا يُوصَفُ لَا بِسَلْبِ وَلَا إثْبَاتٍ . وَاَلَّذِينَ جَعَلُوا بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مُمَاثِلَةً لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِي عِبَادَةٍ لَهُ أَوْ دُعَاءٍ لَهُ أَوْ تَوَكُّلٍ عَلَيْهِ أَوْ حُبِّهَا مِثْلَ حُبِّهِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ ; بَلْ عَبَثًا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضَعَ الْأَشْيَاءُ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فَيُعَاقِبُ خِيَارَ النَّاسِ وَيُكْرِمُ شِرَارَهُمْ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحَبَّ غَيْرُهُ كَمَا يُحَبُّ هُوَ وَيُدْعَى وَيَسْأَلُ فَجَعَلُوا مَمْلُوكَهُ نِدًّا لَهُ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَالْقُرْآنُ مَلْآنُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . فَلَا يُمَثَّلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالطَّاعَةِ وَالدُّعَاءِ وَسَائِرِ حُقُوقِهِ . قَالَ تَعَالَى : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } فَلَا أَحَدَ يُسَامِيهِ . وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُسَاوِيهِ فِي مَعْنَى شَيْءٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَا فِي مَعْنَى الْحَيِّ وَلَا الْعَلِيمِ وَلَا الْقَدِيرِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَا فِي مَعْنَى الذَّاتِ وَالْمَوْجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ إلَهًا وَلَا رَبًّا وَلَا خَالِقًا . فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يكافيه فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ : فَلَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ وَلَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ . قَالَ تَعَالَى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } { وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ - الْقُبُورِ وَغَيْرِهَا - عِنْدَ أَصْحَابِهِ كَالْحَجِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ مِنْ دُعَاءِ الْمَخْلُوقِ وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ نَظِيرَ مَا يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ ; لَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَهُمْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ حَجًّا إلَيْهَا وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ يَحُجُّونَ إلَى الْمَشَاهِدِ وَقُبُورِ شُيُوخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ حَجًّا . وَيَقُولُ دَاعِيَتُهُمْ : السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيُظْهِرُونَ عَلَمًا لِلْحَجِّ إلَيْهِ وَمَعَهُ مُنَادٍ يُنَادِي إلَيْهِ كَمَا يَرْفَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَمًا لِلْحَجِّ لَكِنَّ دَاعِيَ أَهْلِ الْبِدَعِ يُنَادِي : السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عَلَانِيَةً فِي مِثْلِ بَغْدَادَ يَعْنِي السَّفَرَ إلَى مَشْهَدٍ مِنْ الْمَشَاهِدِ فَيَجْعَلُونَ السَّفَرَ إلَى قَبْرِ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ هُوَ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ وَالْحَجَّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ الْأَصْغَرُ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّتُهُمْ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ . وَمِنْ جُهَّالِ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : وَحَقُّ النَّبِيِّ الَّذِي تَحُجُّ الْمَطَايَا إلَيْهِ . فَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ الْمَخْلُوقَ وَيَحُجُّونَ إلَى قَبْرِهِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } . وقَوْله تَعَالَى { وَنُسُكِي } قَدْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ : الذَّبْحَ لِلَّهِ وَالْحَجَّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ . وَذَكَرُوا أَنَّ لَفْظَ النُّسُكِ يَتَنَاوَلُ الْعِبَادَةَ مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الذَّبْحَ وَالْحَجَّ كِلَاهُمَا مَنْسَكٌ : قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ عَجَّلَهَا لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } فَأَرَى اللَّهُ إبْرَاهِيمَ وَابْنَهُ إسْمَاعِيلَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تُقْصَدُ فِي الْحَجِّ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي تُفْعَلُ هُنَاكَ : كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَالصَّلَاةُ تَتَنَاوَلُ الدُّعَاءَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ وَاَلَّذِي هُوَ بِمَعْنَى السُّؤَالِ . فَالصَّلَاةُ تَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } فَقَدْ فُسِّرَ دُعَاؤُهُ بِسُؤَالِهِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ : { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ لِلَّهِ وَلَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ إلَّا لِلَّهِ ; لَا تُبْنَى عَلَى قَبْرِ مَخْلُوقٍ وَلَا مِنْ أَجْلِهِ وَلَا يُسَافَرُ إلَى بُيُوتِ الْمَخْلُوقِينَ . وَقَدْ نَهَى أَنْ يُحَجَّ وَيُسَافَرَ إلَى بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا تِلْكَ الْخَصَائِصُ . وَهَذَا وَنَحْوُهُ يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ . وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَسْتَحِبُّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ . وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ فَلْيُخَرِّجْ نَقْلَهُ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْفُتْيَا إلَّا مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ فَالْمُخَالِفُ لِذَلِكَ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَشَرْعِهِمْ وَلِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ; وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ لَا يُعْبَدُ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَشْرَعْهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . فَبَعَثَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين . وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ الْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ } . وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَأَتْبَاعِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُتَّفِقِينَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ وَلَا يُعْبَدُ هُوَ بِدِينِ لَمْ يَشْرَعْهُ . فَلَمَّا أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . ثُمَّ لَمَّا نُسِخَ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ كَانَ هَذَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَذَلِكَ الْمَنْسُوخُ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَلِلتَّوْرَاةِ شِرْعَةٌ وَلِلْإِنْجِيلِ شِرْعَةٌ وَلِلْقُرْآنِ شِرْعَةٌ . فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِشَرْعِ التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ كَاَلَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ بِلَا تَبْدِيلٍ قَبْلَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاَلَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ الْإِنْجِيلِ بِلَا تَبْدِيلٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .