تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ لَا غِنَى لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَنْ الْمُشَاوَرَةِ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَعَالَى { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ وَلِيَسْتَخْرِجَ بِهَا مِنْهُمْ الرَّأْيَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ : مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ وَالْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَغَيْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِالْمَشُورَةِ . وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . وَإِذَا اسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بَعْضُهُمْ مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ ذَلِكَ وَلَا طَاعَةَ لِأَحَدِ فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } . وَإِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ رَأْيَهُ وَوَجْهَ رَأْيِهِ فَأَيُّ الْآرَاءِ كَانَ أَشْبَهَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَمِلَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . وَأُولُو الْأَمْرِ صِنْفَانِ : الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَهُمْ الَّذِينَ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَرَّى بِمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعَ كِتَابِ اللَّهِ . وَمَتَى أَمْكَنَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُشْكِلَةِ مُعَرَّفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ ; وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ عَجْزِ الطَّالِبِ أَوْ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يَرْتَضِي عِلْمَهُ وَدِينَهُ . هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ . وَقَدْ قِيلَ : لَيْسَ لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ وَقِيلَ : لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ . وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ الشُّرُوطِ يَجِبُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ; بَلْ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ مَعَ الْقُدْرَةِ . فَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا . وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ فَإِنْ عَدِمَهُ أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تَيَمَّمَ صَعِيدًا طَيِّبًا فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ مِنْهُ . { وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ : صَلِّ قَائِمًا . فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى أَيِّ حَالٍ أَمْكَنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } . فَأَوْجَبَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْآمِنِ وَالْخَائِفِ وَالصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ وَخَفَّفَهَا عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْخَائِفِ وَالْمَرِيضِ كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهَا وَاجِبَاتٍ : مِنْ الطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَأَسْقَطَ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ . فَلَوَا انْكَسَرَتْ سَفِينَةُ قَوْمٍ أَوْ سَلَبَهُمْ الْمُحَارِبُونَ ثِيَابَهُمْ صَلَّوْا عُرَاةً بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ وَقَامَ إمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ ; لِئَلَّا يُرَى الْبَاقُونَ عَوْرَتَهُ . وَلَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ اجْتَهَدُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا . فَلَوْ عَمِيَتْ الدَّلَائِلُ صَلَّوْا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ كَمَا قَدْ رَوَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَكَذَا الْجِهَادُ وَالْوِلَايَاتُ وَسَائِرُ أُمُورِ الدِّينِ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْمَطَاعِمَ الْخَبِيثَةَ قَالَ : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } فَلَمْ يُوجِبْ مَا لَا يُسْتَطَاعُ وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ إذَا كَانَتْ الضَّرُورَةُ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ مِنْ الْعَبْدِ .