مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَصْلٌ فِي " وَضْعِ الْجَوَائِحِ " فِي الْمُبَايَعَاتِ وَالضَّمَانَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ مِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ . وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي " قَاعِدَةِ تَلَفِ الْمَقْصُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ " . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى - فِيمَا ذَمَّ بِهِ بَنِي إسْرَائِيلَ - { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } . وَمَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَخَذَ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ بِدُونِ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ هُوَ التَّقَابُضُ فَكُلٌّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ يَطْلُبُ مِنْ الْآخَرِ تَسْلِيمَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ } أَيْ تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ وَهَذَا هُوَ مُوجَبُ الْعُقُودِ وَمُقْتَضَاهَا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَقْدِ مَا طَلَبَهُ الْآخَرُ وَسَأَلَهُ مِنْهُ . فَالْعُقُودُ مُوجِبَةٌ للقبوض ; والقبوض هِيَ الْمَسْئُولَةُ الْمَقْصُودَةُ الْمَطْلُوبَةُ ; وَلِهَذَا تَتِمُّ الْعُقُودُ بِالتَّقَابُضِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرَانِ بَعْدَ التَّقَابُضِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا أَوْ تَحَاكَمَا إلَيْنَا لَمْ نَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ لِانْقِضَاءِ الْعُقُودِ بِمُوجَبَاتِهَا ; وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ; لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَإِيجَابٌ عَلَى النُّفُوسِ بِلَا حُصُولِ مَقْصُودٍ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَلَا لَهُمَا ; وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْسِرَ الَّذِي مِنْهُ بَيْعُ الْغَرَرِ . وَمِنْ الْغَرَرِ مَا يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ وَعَدَمُ قَبْضِهِ : كَالدَّوَابِّ الشَّارِدَةِ ; لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ - وَهُوَ الْقَبْضُ - غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي " بَيْعِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَيْرِ " وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَنْعَهُ . وَبِهَذَا وَقَعَ التَّعْلِيلُ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قِيلَ : وَمَا تُزْهِيَ ؟ قَالَ : حَتَّى تَحْمَرَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ } وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ : { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَعَنْ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ ؟ قِيلَ : وَمَا يَزْهُو ؟ قَالَ : يَحْمَارُّ وَيَصْفَارُّ } وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى تَزْهُوَ فَقُلْت لِأَنَسٍ : مَا زَهْوُهَا ؟ قَالَ : تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيك ؟ } وَهَذِهِ أَلْفَاظُ الْبُخَارِيِّ . وَعِنْدَ مُسْلِمٍ { نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ وَعِنْدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ ؟ } قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ : جَعَلَ مَالِكٍ والدراوردي قَوْلَ أَنَسٍ : أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ - مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَدْرَجَاهُ فِيهِ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلِطَ . وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو مَسْعُودٍ نَظَرٌ . وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ وَهُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجِبُ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ ; فَإِنَّ مَبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ وَالْقِسْطِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَبِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ كَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَبْذُلْ أَحَدُهُمَا مَا بَذَلَهُ إلَّا لِيَحْصُلَ لَهُ مَا طَلَبَهُ . فَكُلٌّ مِنْهُمَا آخِذٌ مُعْطٍ طَالِبٌ مَطْلُوبٌ . فَإِذَا تَلِفَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ - مِثْلَ تَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهَا وَتَلَفِ مَا بِيعَ بِكَيْلِ أَوْ وَزْنٍ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ بِذَلِكَ وَإِقْبَاضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَوْ الْمُشْتَرِي أَدَاءُ الْأُجْرَةِ أَوْ الثَّمَنِ . ثُمَّ إنْ كَانَ التَّلَفُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ ضَمَانُهُ - وَهُوَ التَّلَفُ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ - بَطَلَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ قَبَضَ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ . وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فِيهِ الضَّمَانُ وَهُوَ أَنْ يُتْلِفَهُ آدَمِيٌّ يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ فَلِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ لِأَجْلِ تَلَفِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهِ وَلَهُ الْإِمْضَاءُ لِإِمْكَانِ مُطَالَبَةِ الْمُتْلِفِ . فَإِنْ فَسَخَ كَانَتْ مُطَالَبَةُ الْمُتْلِفِ لِلْبَائِعِ وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ إنْ كَانَ قَبَضَهُ وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ كَانَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُتْلِفِ ; لَكِنَّ الْمُتْلِفَ لَا يُطَالَبُ إلَّا بِالْبَدَلِ الْوَاجِبِ بِالْإِتْلَافِ وَالْمُشْتَرِي لَا يُطَالِبُ إلَّا بِالْمُسَمَّى الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : إنَّ الْمُتْلِفَ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ أَوْ ثَالِثًا أَوْ يَكُونَ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ فَإِتْلَافُهُ كَقَبْضِهِ يَسْتَقِرُّ بِهِ الْعِوَضُ . وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ سَمَاوِيٍّ انْفَسَخَ الْعَقْدُ . وَإِنْ كَانَ ثَالِثًا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ . وَإِنْ كَانَ الْمُتْلِفُ هُوَ الْبَائِعُ فَأَشْهَرُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ كَإِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ . وَالثَّانِي أَنَّهُ كَالتَّلَفِ السَّمَاوِيِّ . وَهَذَا الْأَصْلُ مُسْتَقِرٌّ فِي جَمِيعِ الْمُعَاوَضَاتِ إذَا تَلِفَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَبْضِ تَلَفًا لَا ضَمَانَ فِيهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الضَّمَانُ كَانَ فِي الْعَقْدِ الْخِيَارُ . وَكَذَلِكَ سَائِر الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ فِيهَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ إيَاسٍ : مِثْلَ أَنْ يَغْصِبَ الْمَبِيع أَوْ الْمُسْتَأْجَرَ غَاصِبٌ أَوْ يُفْلِسَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ أَوْ يَتَعَذَّرُ فِيهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقَسْمِ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ مِنْ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُنْتَقَضُ هَذَا بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ الْعَقْدِ وَنِهَايَتُهُ وَلَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ; لِأَنَّ نَفْسَ حُصُولِ الصِّلَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَحَدُ مَقْصُودَيْ الْعَقْدِ ; وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فِي غَيْرِ الرَّبِيبَةِ .