تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ( قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَحْمَدَ ابْنِ تيمية : إلَى الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ السَّالِكِ النَّاسِكِ ( أَبِي الْفَتْحِ نَصْرٍ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مَا فَتَحَ بِهِ عَلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ وَنَصَرَهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي جَهْرِهِ وَإِخْفَائِهِ وَنَهَجَ بِهِ الطَّرِيقَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ الْمُوَافِقَةَ لِشِرْعَتِهِ وَكَشَفَ بِهِ الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ الْمُمَيَّزَةَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ; حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الصَّالِحِينَ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ . ( أَمَّا بَعْدُ ) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الشَّيْخِ وَأَنْعَمَ بِهِ نِعْمَةً بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَجَعَلَ لَهُ عِنْدَ خَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا - مَنْزِلَةً عَلِيَّةً وَمَوَدَّةً إلَهِيَّةً ; لِمَا مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حُسْنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقَصْدِ فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ أَصْلٌ لِطَرِيقِ الْهُدَى وَالْعِبَادَةِ . وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْمَلِ مَحَبَّةٍ فِي أَكْمَلِ مَعْرِفَةٍ فَأَخْرَجَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ - الْمَحَبَّةَ الَّتِي فِيهَا إشْرَاكٌ وَإِجْمَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلذَّوْقِ الْإِيمَانِيِّ وَالْوَجْدِ الدِّينِيِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْفَاضِلَةِ وَبِالْمَحَبَّةِ فِيهِ فِي اللَّهِ وَبِكَرَاهَةِ ضِدِّ الْإِيمَانِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَبَّاسِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا } فَجَعَلَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا بِالرِّضَى بِهَذِهِ الْأُصُولِ كَمَا جَعَلَ الْوَجْدَ مُعَلَّقًا بِالْمَحَبَّةِ ; لِيُفَرِّقَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَثَمَرَةُ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَبَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ إذْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَلَهُ ذَوْقٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ . وَلِهَذَا طَالَبَ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّعِي مَحَبَّتِهِ بِقَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ ; فَطَالَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ; فَجَعَلَ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ مُوجِبَةً لِمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ رَسُولِهِ مُوجِبَةً لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ عَبْدَهُ . وَقَدْ ذَكَرَ نَعْتَ الْمُحِبِّينَ فِي قَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } فَنَعَتَ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ الَّذِي نَعَتَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْجَامِعِ بَيْنَ مَعْنَى الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ الْمُفَرِّقِ فِي الْمِلَّتَيْنِ قَبْلَنَا : وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالْعِزَّةُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَالذِّلَّةُ وَالرَّحْمَةُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ وَجْدٌ وَحُبٌّ مُجْمَلٌ مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ فِيهِ كَبِيرٌ مِنْ كُبَرَائِهِمْ : مُشَرَّدٌ عَنْ الْوَطَنِ مُبْعَدٌ عَنْ السَّكَنِ يَبْكِي الطُّولُ والدمن يَهْوِي وَلَا يَدْرِي لِمَنْ فَالشَّيْخُ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ - قَدْ جَعَلَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ النُّورِ وَالْمَعْرِفَةِ - الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ - مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحَبَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمُفَصَّلَةُ عَنْ الْمُجْمَلَةِ الْمُشْتَرِكَةُ وَكَمَا يَقَعُ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي الْمَحَبَّةِ يَقَعُ أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّتِي هِيَ مَفْرُوضَةٌ عَلَى الْعَبْدِ - وَوَاجِبَةٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ - أَنْ يَقُولَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ : نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي أَوْ قَالَ فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيَهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَمَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَمَعَانِيَ أُمِّ الْكِتَابِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ثناه اللَّهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي نُسُكِهِ : اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقُّ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ دُعَاؤُهُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِي : دُعَاءُ الْعِبَادَةِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي تَأَلُّهِهِ وَعِبَادَتِهِ وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالسُّؤَالِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ . وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةِ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي السُّؤَالِ بِاسْمِ الرَّبِّ فَيَقُولُ الْمُصَلِّي وَالذَّاكِرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ ; وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَلِمَاتُ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى آخِرِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَفِي السُّؤَالِ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } { رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ } { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } { رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَوَجِّهِينَ السَّالِكِينَ يَشْهَدُ فِي سُلُوكِهِ الرُّبُوبِيَّةَ والقيومية الْكَامِلَةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ ; مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَائِمَةٌ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِهَا فَيَقُولُ : { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ } . فَيَغِيبُ وَيَفْنَى بِهَذَا التَّوْحِيدِ الرَّبَّانِيِّ عَمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَيْضًا وَمَطْلُوبٌ مِنْهُ وَهُوَ مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَمُرْضِيهِ مِنْ التَّوْحِيدِ الْإِلَهِيِّ ; الَّذِي هُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَالْأَمْرُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّهْيُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَالْحُبُّ فِيهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا التَّوْحِيدِ وَأَخَذَ بِالْأَوَّلِ : فَهُوَ يُشْبِهُ الْقَدَرِيَّةَ المشركية الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } . وَمَنْ أَخَذَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ : فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَا شَاءَ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالرَّافِضَةُ وَيَقَعُ فِي ( كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ . وَالْأَوَّلُ ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ الْإِبَاحِيَّةِ الْمُنْحَلِّينَ عَنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْوَائِهِمْ وَإِلَّا فَهُوَ لَا يَسْتَمِرُّ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُتَأَلِّهَةِ الْخَارِجِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ خَفْوِ الْعَدُوِّ وَغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّ لَهُمْ زهادات وَعِبَادَاتٍ فِيهَا مَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ فَيُفِيدُهُمْ أَحْوَالًا فِيهَا مَا هُوَ فَاسِدٌ يُشْبِهُونَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الرُّهْبَانَ وَعُبَّادَ البدود . وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ : كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ إذَا دَخَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا وَأَنَا انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةً فَنَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ وَالْوَلِيُّ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ تَكَلَّمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَيْ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيَدْفَعُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُهُ قَدْ قُدِّرَتْ فَيَدْفَعُ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطبراني فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ هُنَّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَشَارَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطبراني أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ : وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي ؟ فَأَمَّا الَّتِي لِي : فَتَعْبُدْنِي لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَأَمَّا الَّتِي لَك فَعَمَلُك أَجْزِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ وَأَمَّا الَّتِي هِيَ بَيْنِي وَبَيْنَك فَمِنْك الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ إلَى النَّاسِ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَأْتُوهُ إلَيْك } .