مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ حَقِيقَةَ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْفُصُوصِ الْمُضَافُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ : وَهُوَ مَا إذَا فَهِمَهُ الْمُسْلِمُ [ عَلِمَ ] بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَجَمِيعَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَلْ جَمِيعَ عَوَامِّ أَهْلِ الْمِلَلِ ; مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ : يَبْرَءُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَيْفَ مِنْهُ كُلِّهِ ؟ . وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَالْكُفَّارَ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ - الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ - رَبِّهِمْ وَرَبِّ آبَائِهِمْ الْأَوَّلِينَ - رَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ عَيْنُ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا نَفْسُ الْمَصْنُوعَاتِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ لَوْ زَالَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ زَالَتْ حَقِيقَةُ اللَّهِ ; وَهَذَا مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ : - ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ - كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ - وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ - كَفَّرَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا . وَإِنَّمَا غَلِطَ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا - وَأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ - وَبَيْنَ ثُبُوتِهَا فِي الْخَارِجِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مَذْهَبَ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَبَيْنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ الْخَارِجِيِّ . وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَذَكَرَ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ : وَهِيَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الَّذِي خَلَقَهُ وَالْوُجُودُ الرَّسْمِيُّ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِيِّ الدَّالُّ عَلَى الْعِلْمِيِّ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَهُ . وَلِهَذَا ذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ . وَهَذَا الْقَوْلُ - أَعْنِي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا وَدَلَالَتُهُ وَاضِحَةٌ لَكِنَّهُ قَدْ اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ نَحْوِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَابْنُ عَرَبِيٍّ وَافَقَ أَصْحَابَهُ وَهُوَ أَحَدُ أَصْلَيْ مَذْهَبِهِ الَّذِي فِي الْفُصُوصِ . ( وَالْأَصْلُ الثَّانِي ) أَنَّ وُجُودَ الْمُحْدَثَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ : هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ لَيْسَ غَيْرُهُ وَلَا سِوَاهُ ; وَهَذَا هُوَ الَّذِي ابْتَدَعَهُ وَانْفَرَدَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الِاتِّحَادِيَّةِ لَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَحْسَنُ كَلَامًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْمَظَاهِرِ فَيُقِرُّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالشَّرَائِعَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِالسُّلُوكِ بِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْمَشَايِخُ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْعِبَادَاتِ وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يَأْخُذُونَ مِنْ كَلَامِهِ سُلُوكَهُمْ فَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ حَقَائِقَهُ وَمَنْ فَهِمَهَا مِنْهُمْ وَوَافَقَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ قَوْلَهُ .