تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ وَاِتِّخَاذِ الْأَخْدَانِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ; وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِإِعْلَانِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَالسِّفَاحِ مَكْتُومًا ; لَكِنْ : هَلْ الْوَاجِبُ مُجَرَّدُ الْإِشْهَادِ ؟ أَوْ مُجَرَّد الْإِعْلَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إشْهَادٌ ؟ أَوْ يَكْفِي أَيُّهُمَا كَانَ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ . وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُرَادَةٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ فِي الطَّلَاقِ فَطَلَّقَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَيَفْعَلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ كَانَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ أَوْ إنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ : فَهَذَا إذَا عَرَفَ التَّحْرِيمَ وَتَابَ صَارَ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا . وَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ يُفْتِيه بِأَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ : فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عُقُوبَةً بِقَدْرِ ظُلْمِهِ كَمُعَاقَبَةِ أَهْلِ السَّبْتِ بِمَنْعِ الْحِيتَانِ أَنْ تَأْتِيَهُمْ فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَعُوقِبَ بِالضِّيقِ . وَإِنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَعَرَّفَهُ الْحَقَّ وَأَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَتَابَ : فَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنَبَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ دَخَلَ فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ . فَكُلُّ مَنْ تَابَ فَلَهُ فَرَجٌ فِي شَرْعِهِ ; بِخِلَافِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَإِنَّ التَّائِبَ مِنْهُمْ كَانَ يُعَاقَبُ بِعُقُوبَاتِ : كَقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا يَقُولُ لَهُ : لَوْ اتَّقَيْت اللَّهَ لَجَعَلَ لَك مَخْرَجًا . وَكَانَ تَارَةً يُوَافِقُ عُمَرَ فِي الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ لِلْمُكْثِرِينَ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ ; مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ تَارَةً لَا يَلْزَمُ إلَّا وَاحِدَةً . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَيَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَتَى الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ ; وَإِلَّا فَوَاَللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِكُلِّ مَا تُحَدِّثُونَ . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ ; وَلَا عُثْمَانَ ; وَلَا عَلِيٍّ نِكَاحُ تَحْلِيلٍ " ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ الشُّهُودُ وَالْمَرْأَةُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ أَعَادُوا الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي الْغَالِبِ طَلَاقَ السُّنَّةِ . وَلَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ ; وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ نَقْلٌ خَاصٌّ فِي الْحَلِفِ ; وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ الْكَلَامُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ ; لَا فِي الْحَلِفِ بِهِ . وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِهِ كَمَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ بِالنَّذْرِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ حَاجَةً فَقَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرَضِي . أَوْ قَضَى دَيْنِي أَوْ خَلَّصَنِي مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ ; فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ . أَوْ أَصُومَ شَهْرًا ; أَوْ أَعْتِقَ رَقَبَةً : فَهَذَا تَعْلِيقُ نَذْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَإِذَا عُلِّقَ النَّذْرُ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ فَقَالَ : إنْ سَافَرْت مَعَكُمْ إنْ زَوَّجْت فُلَانًا . أَنْ أَضْرِبَ فُلَانًا . إنْ لَمْ أُسَافِرْ مِنْ عِنْدِكُمْ : فَعَلَيَّ الْحَجُّ . أَوْ : فَمَالِي صَدَقَةٌ . أَوْ : فَعَلَيَّ عِتْقٌ . فَهَذَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ هُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ ; لَيْسَ بِنَاذِرِ : فَإِذَا لَمْ يَفِ بِمَا الْتَزَمَهُ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَكَذَلِكَ أَفْتَى الصَّحَابَةُ فِيمَنْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ . أَنَّهُ يَمِينٌ يَجْزِيه فِيهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ; وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ التَّابِعِينَ فِي هَذَا كُلِّهِ لَمَّا أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ تَحْلِيفَ النَّاسِ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ - وَهُوَ التَّحْلِيفُ بِالطَّلَاقِ ; وَالْعَتَاقِ ; وَالتَّحْلِيفُ بِاسْمِ اللَّهِ ; وَصَدَقَةُ الْمَالِ . وَقِيلَ : كَانَ فِيهَا التَّحْلِيفُ بِالْحَجِّ - نُكَلِّمُ حِينَئِذٍ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ وَتَكَلَّمُوا فِي بَعْضِهَا عَلَى ذَلِكَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا حَنِثَ بِهَا لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هَذَا جِنْسُ إيمَانِ أَهْلِ الشِّرْكِ ; لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هِيَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ يَلْزَمُ فِيهَا مَا يَلْزَمُ فِي سَائِرِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ . وَاتَّبَعَ هَؤُلَاءِ مَا نُقِلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .