تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ ؟ وَمَا هُوَ الْعِلْمُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ ؟ وَمَا هُوَ الْيَقِينُ ؟ وَكَيْفَ يَحْصُلُ ؟ وَمَا الْعِلْمُ بِاَللَّهِ ؟
1234
وَأَمَّا " الْيَقِينُ " فَهُوَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَاسْتِقْرَارُ الْعِلْمِ فِيهِ وَهُوَ [ مَعْنَى ] مَا يَقُولُونَ : " مَاءٌ يَقَنٌ " إذَا اسْتَقَرَّ عَنْ الْحَرَكَةِ وَضِدُّ الْيَقِينِ الرَّيْبُ . وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ يُقَالُ : رَابَنِي يَرِيبُنِي وَمِنْهُ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ . لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ } ثُمَّ الْيَقِينُ يَنْتَظِمُ مِنْهُ أَمْرَانِ : عِلْمُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ . فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَعْلَمُ عِلْمًا جَازِمًا بِأَمْرِ ; وَمَعَ هَذَا فَيَكُونُ فِي قَلْبِهِ حَرَكَةٌ وَاخْتِلَاجٌ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ كَعِلْمِ الْعَبْدِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ ; وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ ; وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ; فَهَذَا قَدْ تَصْحَبُهُ الطُّمَأْنِينَةُ إلَى اللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَقَدْ لَا يَصْحَبُهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ ; إمَّا لِغَفْلَةِ الْقَلْبِ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ وَالْغَفْلَةُ هِيَ ضِدُّ الْعِلْمِ التَّامِّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ضِدًّا لِأَصْلِ الْعِلْمِ وَإِمَّا لِلْخَوَاطِرِ الَّتِي تَسْنَحُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى الْأَسْبَابِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ فَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ } فَأَهْلُ الْيَقِينِ إذَا اُبْتُلُوا ثَبَتُوا ; بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ قَدْ يُذْهِبُ إيمَانَهُ أَوْ يُنْقِصُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . فَهَذِهِ حَالُ هَؤُلَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } إلَى قَوْلِهِ : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } الْآيَتَيْنِ . وَأَمَّا كَيْفَ يَحْصُلُ الْيَقِينُ فَبِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : تَدَبُّرُ الْآيَاتِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ حَقٌّ . وَالثَّالِثُ : الْعَمَلُ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } الْآيَةَ . وَأَمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ : أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ ; وَأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ ; فَتَفْسِيرُ الْآيَةِ بِذَلِكَ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَرَى الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةَ لِيُبَيِّنَ صِدْقَ الْآيَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مَعَ أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالْآيَاتِ الْمَسْمُوعَةِ كَافِيَةٌ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَدُلَّ عِبَادَهُ بِالْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ - كَمَا يَظُنُّهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَظُنُّونَ أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ وَالْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ وَالْعِلْمُ بِصِدْقِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ ; وَالْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ; وَالْعِلْمِ بِجَوَازِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ ; وَالْعِلْمِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّاتِ ; لِأَنَّ السَّمْعَ عِنْدَهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ ضَلَالِ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْبِدَعِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ قَرَّرَ فِيهِ التَّوْحِيدَ ; وَالنُّبُوَّةَ ; وَالْمُعَادَ بِالْبَرَاهِينِ الَّتِي لَا يَنْتَهِي إلَى تَحْقِيقِهَا نَظَرٌ ; خِلَافَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَاحْتَجَّ فِيهِ بِالْأَمْثَالِ الصَّمَدِيَّةِ ; الَّتِي هِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْيَقِينِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا الْآيَاتُ الْمَشْهُودَةُ فَإِنَّ مَا يُشْهَدُ وَمَا يُعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ : مِنْ عُقُوبَاتِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَمَنْ عَصَاهُمْ وَمِنْ نَصْرِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ وَمَا عُلِمَ مِنْ إكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَجَعْلِ الدَّائِرَةِ عَلَيْهِمْ : فِيهِ عِبْرَةٌ تُبَيِّنُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ; وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ ; وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُوَافِقُ الْقُرْآنَ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا } إلَى قَوْلِهِ : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } . فَهَذَا بَيِّنُ الِاعْتِبَارِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاوَلَ الِاعْتِبَارَ فِي فُرُوعِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } . وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ يُثْبِتُهُ وَيُقَرِّرُهُ وَمُخَالَفَتُهُ تُضْعِفُهُ ; بَلْ قَدْ تُذْهِبُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } الْآيَةَ .