تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ " الْخُلْعِ " : هَلْ هُوَ طَلَاقٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ ؟ وَهَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ ؟
12345
وَأَمَّا التِّجَارَةُ الْمُجَرَّدَةُ فِي الْمَنَافِعِ : مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا وَيُؤَجِّرَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يُحْدِثُهُ . فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . قَالُوا . لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ . و " الْأَوَّلُ " أَصَحُّ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ . بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ إلَيْهِ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعَيْنِ تَلِفَتْ عَلَى مِلْكِهِ ; بِخِلَافِ مَا إذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ ; فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَلَفِ الثَّمَرِ قَبْلَ صَلَاحِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي تُورَثُ قَدْ تُنُوزِعَ فِي جَوَازِ التِّجَارَةِ فِيهَا ; فَكَيْفَ بِالْأَبْضَاعِ الَّتِي لَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ; وَإِنَّمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرِثُونَ الْأَبْضَاعَ فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ . فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُفَارِقَ الْمَرْأَةَ وَيُزَوِّجَهَا بِغَيْرِهِ لِيَأْخُذَ صَدَاقَهَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ . وَلَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ لَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَهُ فَلِهَذَا نَهَى عَنْ الزِّيَادَةِ . وَإِذَا شَبَّهَ الْخُلْعَ بِالْإِقَالَةِ ; فَالْإِقَالَةُ فِي كُلِّ عَقْدٍ بِحَسَبِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ تَبِينُ بِهِ الْمَرْأَةُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ : هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ تَدُلُّ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ . وَعَلَى هَذَا فَإِذَا فَارَقَ الْمَرْأَةَ بِالْعِوَضِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ; سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ . وَإِذَا قِيلَ : الطَّلَاقُ صَرِيحٌ فِي إحْدَى الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي الْخُلْعِ . قِيلَ : إنَّمَا الصَّرِيحُ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ . فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِقَيْدِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ : فَهُوَ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْمُقَيَّدِ كَمَا إذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ . أَوْ مِنْ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ ; فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ ; لَا فِي الطَّلَاقِ مِنْ النِّكَاحِ . وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ . فَقَالَتْ : قَبِلْت . فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْعِوَضِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْخُلْعِ ; لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ أَلْبَتَّةَ فَإِذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ فَقَدْ نَوَى بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَمَا لَوْ نَوَى بِالْخُلْعِ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . فَنِّيَّتُهُ هَذَا الْحُكْمَ بَاطِلٌ كَذَلِكَ نِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى بِالظِّهَارِ الطَّلَاقَ أَوْ نَوَى بِالْإِيلَاءِ الطَّلَاقَ مُؤَجَّلًا مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا : فَأَبْطَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ وَحَكَمَ فِي " الْإِيلَاءِ " بِأَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفِ أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانِ مَعَ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . وَحَكَمَ فِي " الظِّهَارِ " بِأَنَّهُ إذَا عَادَ كَمَا قَالَ : كَفَرَ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ وَلَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جَعَلَ الْإِيلَاءَ طَلَاقًا مُؤَجَّلًا أَوْ جَعَلَ التَّحْرِيمَ الَّذِي فِي مَعْنَى الظِّهَارِ طَلَاقًا : قَوْلُهُ مَرْجُوحٌ فِيهِ شَبَهٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا بِخِلَافِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حَقِيقَةِ الظِّهَارِ ; وَحَقِيقَةِ الْإِيلَاءِ وَحَقِيقَةِ الطَّلَاقِ ; فَإِنَّ هَذَا عَلِمَ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَلَمْ يُدْخِلْ فِي الْحُدُودِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجْ مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ " الِافْتِدَاءُ " لَهُ حَقِيقَةٌ يُبَايِنُ بِهَا مَعْنَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ فِي حَقِيقَةِ الِافْتِدَاءِ ; وَلَا حَقِيقَةَ الِافْتِدَاءِ فِي حَقِيقَةِ الطَّلَاقِ ; وَإِنْ عَبَّرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِلَفْظِ الْآخَرِ أَوْ نَوَى بِأَحَدِهِمَا حُكْمَ الْآخَرِ فَهُوَ كَمَا إذَا نَوَى بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ; أَوْ الْخُلْعِ : أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . فَنِيَّةُ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ ; وَكَذَلِكَ نِيَّتُهُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الثَّلَاثِ بَاطِلٌ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إلَّا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَمَنْ نَوَى هَذَا الْحُكْمَ بِغَيْرِ هَذَا الطَّلَاقِ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; كَذَلِكَ مَنْ نَوَى بِالْفُرْقَةِ الْبَائِنَةِ أَنَّ الْفُرْقَةَ نَقْصُ بَعْضٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ قَصَدَ هَذَا أَوْ هَذَا لِجَهْلِهِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ كَمَا لَوْ قَصَدَ بِسَائِرِ الْعُقُودِ مَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَكُونُ جَاهِلًا بِالسُّنَّةِ ; فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ . وَكَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِيمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ : هُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُخَالِعِ : وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } إذْنٌ لَهُ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ بِعِوَضِ وَنَهْيٌ لَهُ عَنْ الزِّيَادَةِ . كَمَا قَدْ بَيَّنَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ " الطَّلَاقَ السُّنَّةَ " أَنْ يُطَلِّقَ طَلْقَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُرَاجِعُهَا أَوْ يَدَعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ جَدِيدٍ : فَهُوَ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا وَأَحْمَد فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ ; وَاخْتِيَارِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ; كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَذِكْرُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً وَزَمَانَ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ; فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ ; فَلَوْ نَفَّذْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَنْفَذَهُ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَعَلَى كَلَامِ النَّاسِ فِيهِ بِمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الْآخَرَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ داود بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ ; عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنْ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ; فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ ؟ أَمْ مَجَالِسَ قَالَ : بَلْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ } وَقَدْ أَثْبَتَ هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ ; وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي حَدِيثِ ركانة . أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ { وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْلَفَهُ : مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ قَالَ : مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً . فَرَدَّهَا عَلَيْهِ } فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ الصِّفَاتِ لَا يُعْرَفُ عَدْلُهُمْ وَحِفْظُهُمْ وَلِهَذَا ضَعَّفَ أَحْمَد وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ حَدِيثَهُمْ ; بِخِلَافِ حَدِيثِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ; وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِهِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ ; وَاَلَّذِينَ رَوَاهُ عُلَمَاءُ فُقَهَاءَ وَقَدْ عَمِلُوا بِمُوجَبِهِ كَمَا أَفْتَى طَاوُوسٌ وَعِكْرِمَةُ ; وَابْنُ إسْحَاقَ : أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ . وَقَدْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : هَذَا أَخْطَأَ السُّنَّةَ فَيُرَدُّ إلَى السُّنَّةِ . وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو داود فِي سُنَنِهِ مِنْ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ أَلْبَتَّةَ ; فَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ داود بْنِ الْحُصَيْنِ هَذَا عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ طَرِيقًا آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ رِوَايَةِ مَجْهُولٍ . فَقَدَّمَ رِوَايَةَ مَجْهُولٍ عَلَى مَجْهُولٍ . وَأَمَّا رِوَايَةُ داود بْنَ الْحُصَيْنِ هَذِهِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى تِلْكَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ; وَلَكِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لَمْ تَبْلُغْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ كَمَا أَنَّ حَدِيثَ طَاوُوسٍ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ; بَلْ أَكْثَرُهُمْ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَ الْكَلَامُ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْإِفْتَاءِ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ [ لَمَّا ] أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَأَظْهَرُوهُ فَجُعِلَ عُقُوبَةً لَهُمْ . وَذِكْرُ كَلَامِ النَّاسِ عَلَى " الْإِلْزَامِ بِالثَّلَاثِ " : هَلْ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ شَرْعٌ لَازِمٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ فَعَلَهُ عُقُوبَةَ ظُهُورِ الْمُنْكَرِ وَكَثْرَتِهِ ؟ وَإِذَا قِيلَ : هُوَ عُقُوبَةٌ : فَهَلْ مُوجِبُهَا دَائِمٌ لَا يَرْتَفِعُ ؟ أَوْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ؟ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا لَازِمًا وَلَا عُقُوبَةَ اجْتِهَادِيَّةً لَازِمَةً ; بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ اجْتِهَادٌ سايغ مَرْجُوحٌ أَوْ عُقُوبَةٌ عَارِضَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَالْعُقُوبَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ . فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ وَلَمَّا عَلِمَهُ تَابَ مِنْهُ : فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ هَذَا بِالثَّلَاثِ الْمَجْمُوعَةِ ; بَلْ إنَّمَا يُلْزَمُ وَاحِدَةً . هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ . فَأَمَّا إذَا كَانَ بِعِوَضِ فَهُوَ " فِدْيَةٌ " كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الثَّلَاثَ أَيْضًا بِالْعِوَضِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ بِالْعِوَضِ إلَّا وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ كَمَا لَا يُطَلِّقُ بِغَيْرِهِ إلَّا وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ ; لَكِنَّ الطَّلَاقَ بِالْعِوَضِ طَلَاقٌ مُقَيَّدٌ : هُوَ فِدْيَةٌ وَفُرْقَةٌ بَائِنَةٌ ; لَيْسَ هُوَ الطَّلَاقَ الْمُطْلَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ; فَإِنَّ هَذَا هُوَ الرَّجْعِيُّ . فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً بِعِوَضِ وَقِيلَ : إنَّ الثَّلَاثَ بِلَا عِوَضٍ وَاحِدَةٌ وَبِالْعِوَضِ فَدِيَةٌ لَا تُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ كَانَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بِفِدْيَةِ لَا تُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ وَكَانَ لِهَذَا الْمُفَارِقِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَقْدًا جَدِيدًا وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِرَاقُ بِالْعِوَضِ مِنْ الثَّلَاثِ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا وَالثِّنْتَانِ مُحَرَّمَةٌ وَالْوَاحِدَةُ مُبَاحَةٌ ; وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ الْوَاحِدَةُ بِالْعِوَضِ مِنْ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهَا فِدْيَةٌ وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّلَاقِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ ثَلَاثًا ; بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَتَكُونَ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثٍ . و " جِمَاعُ الْأَمْرِ " أَنَّ الْبَيْنُونَةَ نَوْعَانِ : " الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى " وَهِيَ إيقَاع الْبَيْنُونَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الَّذِي تَحْرُمُ بِهِ الْمَرْأَةُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . و " الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى " وَهِيَ : الَّتِي تَبِينُ بِهَا الْمَرْأَةُ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا . فَالْخُلْعُ تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى دُونَ الْكُبْرَى . وَالْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى الْحَاصِلَةُ بِالثَّلَاثِ تَحْصُلُ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقُهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ ; أَوْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً وَقَدْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا وَيَدَعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ; ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا بِعَقْدِ جَدِيدٍ . وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدَّةِ . وَإِذَا تَزَوَّجَهَا أَوْ ارْتَجَعَهَا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ; بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَهَا الثَّلَاثَ فِي أَطْهَارٍ قَبْلَ رَجْعَةٍ أَوْ عَقْدٍ ; فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَلَوْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ إيقَاعًا مُحَرَّمًا : فَهَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ ؟ أَوْ وَاحِدَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ ; كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ لَا يَقَعُ لَمْ يَمْلِكْ الْبَيْنُونَةَ الْكُبْرَى بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَبْذُلَ لَهُ الْعِوَضَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَإِذَا بَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُحَرَّمَةِ بَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَا يَمْلِكُهُ فَإِذَا أَوْقَعَهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إلَّا الْمُبَاحُ وَالْمُبَاحُ بِالْعِوَضِ إنَّمَا هُوَ بِالْبَيْنُونَةِ الصُّغْرَى دُونَ الْكُبْرَى ; بَلْ لَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَبَذَلَتْ لَهُ الْعِوَضَ عَلَى الْفُرْقَةِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِ الطَّلَاقِ لَمْ تَقَعْ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ عَلَى قَوْلِنَا : إنَّ الْفُرْقَةَ بِعِوَضِ فَسْخٌ تَحْصُلُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى ; فَإِذَا فَارَقَهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَعَتْ بِهِ " الْبَيْنُونَةُ الصُّغْرَى " وَهُوَ الْفَسْخُ دُونَ الْكُبْرَى . وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِعَقْدِ جَدِيدٍ ; لَكِنْ إنْ صَرَّحَتْ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فِي الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَكَانَ مَقْصُودُهَا أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ : فَقَدْ بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِي غَيْرِ الْبَيْنُونَةِ الصُّغْرَى وَهُوَ يُشْبِهُ مَا إذَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ بِشَرْطِ الرَّجْعَةِ . فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ الرَّجْعَةَ فِي الْخُلْعِ يُشْبِهُ اشْتِرَاطَهَا الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ لَهَا فِيهِ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَمْلِكُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَهَا كَمَا كَانَ يَمْلِكُ قَبْلَ ذَلِكَ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .