تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ حُكْمِ الْبِنَاءِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْوَاسِعِ إذَا كَانَ الْبِنَاءُ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ؟
12
فَأَجَابَ : إنَّ ذَلِكَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبْنِيَ لِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ . وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْته أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ حَدَثَتْ فِي أَيَّامِهِ وَاخْتَلَفَ فِيهَا جَوَابُ الْمُفْتِينَ فَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةٍ حَادِثَةٍ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ : هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي حِيَازَةِ بَعْضِهِ مُبَيِّنًا أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِالْجَوَازِ وَبَعْضَهُمْ أَفْتَى بِالْمَنْعِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي وَذَكَرَ أَنَّهُ كَلَامُ أَحْمَد ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : إذَا كَانَ الطَّرِيقُ قَدْ سَلَكَهُ النَّاسُ فَصَارَ طَرِيقًا . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا . قِيلَ لَهُ : وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا مِثْلَ الشَّوَارِعِ ؟ قَالَ : وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا . قَالَ : وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّنْ أَخَذَ حَدًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ ; لِأَنَّ هَذَا يَأْخُذُ مِنْ وَاحِدٍ وَهَذَا يَأْخُذُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ : قُلْت : وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ مُصَنَّفًا فِيمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي . قَالَ فِي الْمُغْنِي : وَمَا كَانَ مِنْ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرَّحَبَاتِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ : فَلَيْسَ لِأَحَدِ إحْيَاؤُهُ سَوَاءٌ كَانَ وَاسِعًا أَوْ ضَيِّقًا وَسَوَاءٌ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُضَيِّقْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَتُهُمْ فَأَشْبَهَ مَسَاجِدَهُمْ وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِالْقُعُودِ فِي الْوَاسِعِ مَعَ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ; لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى إقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمُبَاحِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ فَلَمْ يُمْنَعْ كَالِاجْتِيَازِ . قَالَ أَحْمَد فِي السَّابِقِ إلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ : دَعُوهُ فَهُوَ لَهُ إلَى اللَّيْلِ وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ } . وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ مِنْ بَارِيَةٍ وَتَابُوتٍ وَكِسَاءٍ وَنَحْوِهِ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ ; لَا دَكَّةٌ وَلَا غَيْرُهَا ; لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ وَتَعْثُرُ بِهِ الْمَارَّة بِاللَّيْلِ وَالضَّرِيرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَيَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِيهِ . ( قُلْت : هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا بَنَى الدَّكَّةَ لِنَفْسِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ ; وَلِهَذَا عُلِّلَ بِأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي [ أَنَّهَا ] مِلْكُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ الضَّرَرِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْبِنَاءَ يُحَاذِي مَا عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ أَصْلًا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ وَمُوجَبُ هَذَا التَّعْلِيلِ الْجَوَازُ إذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي . وَفِي الْجُمْلَةِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالْبَانِي الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ أَصْلًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ : وَنَظِيرُ هَذَا إذَا أَخْرَجَ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا إلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ . فَهَلْ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : ( أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْبَرَكَاتِ . ( وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ كَمَا اخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ المروزي فِي " كِتَابِ الْوَرَعِ " آثَارًا فِي ذَلِكَ . مِنْهَا مَا نَقَلَهُ المروزي عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ سَقَفَ لَهُ دَارًا وَجَعَلَ مِيزَابَهَا إلَى الطَّرِيقِ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ : اُدْعُ لِي النَّجَّارَ حَتَّى يُحَوِّلَ الْمَاءَ إلَى الدَّارِ . فَدَعَوْته لَهُ فَحَوَّلَهُ وَقَالَ : إنَّ يَحْيَى الْقَطَّانَ كَانَتْ مِيَاهُهُ فِي الطَّرِيقِ فَعَزَّمَ عَلَيْهَا وَصَيَّرَهَا إلَى الدَّارِ . وَذَكَرَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ ذَكَرَ وَرَعَ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ وَأَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لَك أَنْ تُطَيِّنَ الْحَائِطَ ; لِئَلَّا يَخْرُجَ إلَى الطَّرِيقِ . وَسَأَلَهُ المروزي عَنْ الرَّجُلِ يَحْتَفِرُ فِي فِنَائِهِ الْبِئْرَ أَوْ الْمُحَرَّمَ لِلْعُلُوِّ قَالَ : لَا ; هَذَا طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ المروزي : قُلْت : إنَّمَا هُوَ بِئْرٌ يُحْفَرُ وَيُسَدُّ رَأْسُهَا قَالَ : أَلَيْسَ هِيَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَسَأَلَهُ ابْنُ الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يُخْرِجُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْكَنِيفَ أَوْ الْأُسْطُوَانَةَ : هَلْ يَكُونُ عَدْلًا ؟ قَالَ : لَا يَكُونُ عَدْلًا وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ . وَرَوَى أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَثَاعِبِ وَالْكُنُفِ تُقْطَعُ عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ . وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو المزني قَالَ : لَأَنْ يَصُبَّ طِينِي فِي حَجَلَتِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَصُبَّ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ : وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُخْرِجُ مِنْ دَارِهِ إلَى الطَّرِيقِ مَاءَ السَّمَاءِ قَالَ : فَرُئِيَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قِيلَ لَهُ : بِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : بِكَفِّ أَذَاهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ مِيزَابِ الْعَبَّاسِ . ( النَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يَبْنِيَ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ مَا لَا يَضُرُّ الْمَارَّة لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ : مِثْلَ بِنَاءِ مَسْجِدٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ أَوْ تَوْسِيعِ مَسْجِدٍ ضَيِّقٍ بِإِدْخَالِ بَعْضِ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ فِيهِ أَوْ أَخْذِ بَعْضِ الطَّرِيقِ لِمَصْلَحَةِ الْمَسْجِدِ : مِثْلَ حَانُوتٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَسْجِدُ فَهَذَا النَّوْعُ يَجُوزُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد الْمَعْرُوفِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ; وَلَكِنْ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى إذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ لَمْ يَحْكِ نِزَاعًا فِي جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ . وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ رِوَايَةً ثَالِثَةً بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا . وَالْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَد الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ مِنْ زَمَنِ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ إلَى زَمَنِ مُتَأَخِّرِي الْمُصَنِّفِينَ مِنْهُمْ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَابْنِ تَمِيمٍ وَابْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِمْ . وَأَلْفَاظُ أَحْمَد فِي " جَامِعِ الْخِلَالِ " و " الشَّافِي " لِأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ " وَزَادِ الْمُسَافِرِ " و " الْمُتَرْجِمِ " لِأَبِي إسْحَاقَ الجوزجاني وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشالنجي : سَأَلْت أَحْمَد عَنْ طَرِيقٍ وَاسِعٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ غِنًى وَبِهِمْ إلَى أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا حَاجَةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى هُنَاكَ مَسْجِدٌ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ . " وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ هَذَا مِنْ أَجَلِّ مَسَائِلِ أَحْمَد وَقَدْ شَرَحَهَا أَبُو إسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني فِي " كِتَابِهِ الْمُتَرْجِمِ " وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ دِمَشْقَ هُنَا وَلَهُ عَنْ أَحْمَد مَسَائِلُ وَكَانَ يَقْرَأُ كُتُبَ أَحْمَد إلَيْهِ عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ فَأَحْمَدُ أَجَازَ الْبِنَاءَ هُنَا مُطْلَقًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ إذْنَ الْإِمَامِ . وَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ . تَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الطَّرِيقِ . فَقَالَ : أَكْرَهُ الصَّلَاةَ فِيهِ ; إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُنَا اشْتَرَطَ فِي الْجَوَازِ إذْنَ الْإِمَامِ . وَمَسَائِلُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَحْمَد بَعْدَ مَسَائِلِ ابْنِ الْحَكَمِ ; فَإِنَّ ابْنَ الْحَكَمِ صَحِبَ أَحْمَد قَدِيمًا وَمَاتَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً . وَأَمَّا إسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَسَأَلَ أَحْمَد مُتَأَخِّرًا وَسَأَلَ مَعَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ داود الْهَاشِمِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَسُلَيْمَانُ كَانَ يُقْرَنُ بِأَحْمَدَ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيِّ : مَا رَأَيْت بِبَغْدَادَ أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ : أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ داود الْهَاشِمِيُّ . وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةً ثَالِثَةً فَأَخَذُوهَا مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ المروزي : حُكْمُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي قَدْ بُنِيَتْ فِي الطَّرِيقِ أَنْ تُهْدَمَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ : قُلْت لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَزِيدُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الطَّرِيقِ ؟ قَالَ : لَا يُصَلِّي فِيهِ . وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رِوَايَةً ثَالِثَةً فَإِنَّهُ يَقُولُ : هَذَا إشَارَةٌ مِنْ أَحْمَد إلَى مَسَاجِدَ ضَيَّقَتْ الطَّرِيقَ وَأَضَرَّتْ بِالْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا بِلَا رَيْبٍ ; فَإِنَّ فِي هَذَا جَمْعًا بَيْنَ نُصُوصِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّنَاقُضِ بَيْنَهَا . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحْمَد يُجَوِّزُ إبْدَالَ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِهِ لِلْمَصْلَحَةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ . قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد : قُلْت لِأَبِي : الْمَسْجِدُ يَخْرَبُ وَيَذْهَبُ أَهْلُهُ : تَرَى أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَكَانٍ آخَرَ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ يُرِيدُ مَنْفَعَةَ النَّاسِ فَنَعَمْ ; وَإِلَّا فَلَا . قَالَ : وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ حَوَّلَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ مِنْ التَّمَّارِينَ فَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فَلَا بَأْسَ وَإِلَّا فَلَا . وَقَدْ سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ بَنَى مَسْجِدًا ثُمَّ أَرَادَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ : إنْ كَانَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ يُرِيدُ أَنْ يُحَوِّلَهُ خَوْفًا مِنْ لُصُوصٍ أَوْ يَكُونُ مَوْضِعُهُ مَوْضِعًا قَذِرًا فَلَا بَأْسَ . قَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثِنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى بَيْتِ الْمَالِ كَانَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ بَنَى الْقَصْرَ وَاِتَّخَذَ مَسْجِدًا عِنْدَ أَصْحَابِ التَّمْرِ قَالَ : فَنَقَبَ بَيْتَ الْمَالِ فَأَخَذَ الرَّجُلُ الَّذِي نَقَبَهُ فَكَتَبَ فِيهِ إلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ عُمَرَ : أَنْ اقْطَعْ الرَّجُلَ وَانْقُلْ الْمَسْجِدَ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ; فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ فِي الْمَسْجِدِ مُصَلٍّ . فَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَخَطَّ لَهُ هَذِهِ الْخُطَّةَ . قَالَ صَالِحٌ : قَالَ أَبِي : يُقَالُ إنَّ بَيْتَ الْمَالِ نَقَبَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَسْجِدَ مَوْضِعَ التَّمَّارِينَ الْيَوْمَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ . يَعْنِي أَحْمَد : أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي بَنَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ مَوْضِعَ التَّمَّارِينَ فِي زَمَانِ أَحْمَد وَهَذَا الْمَسْجِدُ هُوَ الْمَسْجِدُ الْعَتِيقُ ثُمَّ غُيِّرَ مَسْجِدُ الْكُوفَةِ مَرَّةً ثَالِثَةً . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : يُحَوَّلُ الْمَسْجِدُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ ضَيِّقًا لَا يَسَعُ أَهْلَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحَوَّلَ إلَى مَوْضِعٍ أَوْسَعَ مِنْهُ . وَجَوَّزَ أَحْمَد أَنْ يُرْفَعَ الْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْأَرْضِ وَيُبْنَى تَحْتَهُ سِقَايَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ . وَإِنْ تَنَازَعَ الْجِيرَانُ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَحْنُ شُيُوخٌ لَا نَصْعَدُ فِي الدَّرَجِ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ بِنَاءَهُ . فَقَالَ أَحْمَد : يَنْظُرُ إلَى مَا يَخْتَارُ الْأَكْثَرُ . وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ هَذَا عَلَى أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْبِنَاءَ وَمُحَقِّقُو أَصْحَابِهِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ خَطَأٌ ; لِأَنَّ نُصُوصَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ صَرِيحَةٌ بِتَحْوِيلِ الْمَسْجِدِ . فَإِذَا كَانَ أَحْمَد قَدْ أَفْتَى بِمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ حَيْثُ جَعَلُوا الْمَسْجِدَ غَيْرَ الْمَسْجِدِ ; لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ سَائِر الْبِقَاعِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا } فَإِذَا جَازَ جَعْلُ الْبُقْعَةِ الْمُحْتَرَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بُقْعَةً غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ جَعْلُ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً كَالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ بُقْعَةً مُحْتَرَمَةً وَتَابِعَةً لِلْبُقْعَةِ الْمُحْتَرَمَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ; فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الطُّرُقَاتِ وَكِلَاهُمَا مَنْفَعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ .