تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ حُكْمِ الْبِنَاءِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ الْوَاسِعِ إذَا كَانَ الْبِنَاءُ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ؟
12
فَصْلٌ وَالْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِمَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُوَّابِهِ فَمَا كَانَ إلَى الْحُكَّامِ فَأَمْرُ الْحَاكِمِ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْإِمَامِ فِيهِ كَأَمْرِ الْإِمَامِ مِثْلَ تَزْوِيجِ الْأَيَامَى وَالنَّظَرِ فِي الْوُقُوفِ وَإِجْرَائِهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِيهَا وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَوُقُوفِهَا ; حَيْثُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِعْلُ ذَلِكَ فَمَا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ جَازَ لِنَائِبِهِ فِيهِ . وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي شَاعَ فِيهَا النِّزَاعُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى نَائِبِهِ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ وَلَا يَنْقُضُ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا إذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي الطَّرِيقِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَكَذَلِكَ فَنَاءُ الدَّارِ ; وَلَكِنْ هَلْ الْفِنَاءُ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الدَّارِ ؟ أَوْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : ( أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . حَتَّى قَالَ مَالِكٍ فِي الْأَفْنِيَةِ الَّتِي فِي الطَّرِيقِ : يَكْرِيهَا أَهْلُهَا فَقَالَ : إنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً تَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ وَصُنِعَ شَيْءٌ فِيهَا مُنِعُوا وَلَمْ يُمَكَّنُوا . وَأَمَّا كُلُّ فَنَاءٍ إذَا انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهُ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَمَرِّهِمْ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا . قَالَ الطحاوي : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْأَفْنِيَةَ مَمْلُوكَةً لِأَهْلِهَا ; إذْ أَجَازَ إجَارَتَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ الْبَيْعُ بِشَرْطِهَا . قَالَ : وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلدَّارِ فَهُوَ مِلْكٌ لِصَاحِبِهَا ; إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَهُ . وَذَكَرَ الطحاوي أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْنِيَةَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ كَسَائِرِ الطَّرِيقِ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ تُمْلَكُ دُونَ الطَّرِيقِ ; إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالْمَرَافِقِ مِنْ غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ هُوَ أَحَقُّ بِفِنَاءِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَد فِي الْكَلَأِ النَّابِتِ فِي مِلْكِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَالدَّارِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ مِنْهُ فِي جَادَّة الطَّرِيقِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اتَّخَذَ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَهَذَا كَالْبَطْحَاءِ الَّتِي كَانَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَهَا خَارِجَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَتَحَدَّثُ وَيَفْعَلُ مَا يُصَانُ عَنْهُ الْمَسْجِدُ . فَلَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا وَلَمْ يَكُنْ كَالطَّرِيقِ بَلْ اخْتِصَاصٌ بِالْمَسْجِدِ فَمِثْلُ هَذِهِ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْبِنَاءُ كَالدَّخَلَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُنْحَرِفَةً عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ مُتَّصِلَةٌ بِالدَّارِ وَالْمَسْجِدِ وَمُتَّصِلَةٌ بِالطَّرِيقِ وَأَهْلُ الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا ; إلَّا إذَا قُدِّرَ رَحْبَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْعَادَةِ وَهِيَ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي يُنْفِذُ الْمُتَّصِلَ بِالطَّرِيقِ النَّافِذِ فَإِنَّهُمْ فِي هَذَا كُلِّهِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا فِيهِ وَيَجْعَلُوا عَلَيْهِ بَابًا جَازَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ ; لِمَا تَقَدَّمَ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ . وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ : حَقُّهُمْ فِيهِ إنَّمَا هُوَ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ إذَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ كَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالصَّحْرَاءِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِأَصْحَابِهَا : كَالصَّلَاةِ فِيهَا وَالْمَقِيلِ فِيهَا وَنُزُولِ الْمُسَافِرِ فِيهَا ; فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ فِيهَا . وَفِي أَفْنِيَةِ الدَّوْرِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْفِنَاءِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ قَوْلَيْنِ وَذَكَرَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِي الصَّحْرَاءِ وَجْهًا بِالْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا وَهُوَ بَعِيدٌ عَلَى نُصُوصِ أَحْمَد وَأُصُولِهِ ; فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ أَكْلَ الثَّمَرَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . فَكَيْفَ بِالْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تَضُرُّهُ وَيَجُوزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ رَعْيُ الْكَلَأِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَيَدْخُلُهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا لِأَجْلِ الْكَلَأِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ . وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِوَجْهِ فَهُوَ كَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّهِ وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنَارِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ فَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً ; وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا حَائِطٌ وَلَا نَاطُورٌ فَيَجُوزُ فِيهَا مِنْ الْأَكْلِ بِلَا عِوَضٍ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَمْنُوعَةِ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَد ; إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِلْمُحْتَاجِ ; وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْحَمْلُ . وَإِذَا جَازَ الْبِنَاءُ فِي فِنَاءِ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ فَفِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمَسْجِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَفِنَاءُ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ لَا يَخْتَصُّ بِنَاحِيَةِ الْبَابِ ; بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا : إذَا كَانَ الْمُحْيِي أَرْضًا كَانَ أَحَقَّ بِفِنَائِهَا فَلَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي أَصْلِ حَائِطِهِ بِئْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ والماوردي وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .