تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا يُذْكَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ : اتَّخِذُوا مَعَ الْفَقِيرِ أَيَادِي فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَةً وَأَيَّ دَوْلَةٍ وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكُنْت بَيْنَهُمَا كَالزِّنْجِيِّ مَا مَعْنَى ذَلِكَ ؟ وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضِ : نَحْنُ فِي بَرَكَتِك أَوْ مِنْ وَقْتِ حَلَلْت عِنْدَنَا حَلَّتْ عَلَيْنَا الْبَرَكَةُ . وَنَحْنُ فِي بَرَكَةِ هَذَا الشَّيْخِ الْمَدْفُونِ عِنْدَنَا . هَلْ هُوَ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
12
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَا الْحَدِيثَانِ الْأَوَّلَانِ فَكِلَاهُمَا كَذِبٌ وَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ قَطُّ وَلَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ ; فَإِنَّ مَنْ كَانَ دُونَ عُمَرَ كَانَ يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَفْهَمُ مَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ فَكَيْفَ بِعُمَرِ ؟ وَعُمَرُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الزِّنْجِيِّ . ثُمَّ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ مَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ ; يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ السِّرَّ الَّذِي لَمْ يَفْهَمْهُ عُمَرُ . وَحَمَلَهُ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى رَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ ; والنجادية يَدَّعُونَ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ وَأَهْلُ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّذِينَ يَنْفُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعِيدَ يَدَّعُونَ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ . وَأَهْلُ الْحُلُولِ الْخَاصِّ أَشْبَاهُ النَّصَارَى يَدَّعُونَ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ ; إلَى أَصْنَافٍ أُخَرَ يَطُولُ تَعْدَادُهَا . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ عُمَرَ وَهُوَ شَاهِدٌ لَمْ يَفْهَمْ مَا قَالَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ الضُّلَّالَ أَهْلَ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَالْمُحَالِ عَلِمُوا مَعْنَى ذَلِكَ الْخِطَابِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ لَفْظَهُ . وَإِنَّمَا وُضِعَ مِثْلُ هَذَا الْكَذِبِ مَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةِ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ : إنَّ مَا أَظْهَرَهُ الرُّسُلُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَالشَّرِيعَةِ لَهُ بَاطِنٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ ; وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ الْبَاطِنَ دُونَ عُمَرَ ; وَيَجْعَلُونَ هَذَا ذَرِيعَةً عِنْدَ الْجُهَّالِ إلَى أَنْ يَسْلُخُوهُمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَنَظِيرُ هَذَا مَا يَرْوُونَهُ أَنْ عُمَرَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ لِيُعْرَفَ حَالُهُ فِي الْبَاطِنِ فَقَالَتْ : كُنْت أَشُمُّ رَائِحَةَ الْكَبِدِ الْمَشْوِيَّةِ . فَهَذَا أَيْضًا كَذِبٌ وَعُمَرُ لَمْ يَتَزَوَّجْ امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ . بَلْ تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ جَعْفَرٍ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عميس وَكَانَتْ مِنْ عُقَلَاءِ النِّسَاءِ وَعُمَرُ كَانَ أَعْلَمَ بِأَبِي بَكْرٍ مِنْ نِسَائِهِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ : { اتَّخِذُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَةً وَأَيَّ دَوْلَةٍ } فَهَذَا - أَيْضًا - كَذِبٌ مَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَأَهْلُ الْفَيْءِ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ الْمُجَاهِدُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } الْآيَةَ . وَالْمُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَغِيَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَلَا يَطْلُبَ مِنْ مَخْلُوقٍ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } وَقَالَ : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَمَنْ طَلَبَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الدُّعَاءَ أَوْ الثَّنَاءَ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ; فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي داود { مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } وَلِهَذَا كَانَتْ عَائِشَةُ إذَا أَرْسَلَتْ إلَى قَوْمٍ بِهَدِيَّةِ تَقُولُ لِلرَّسُولِ : اسْمَعْ مَا دَعَوْا بِهِ لَنَا ; حَتَّى نَدْعُوَ لَهُمْ بِمِثْلِ مَا دَعَوْا وَيَبْقَى أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إذَا أَعْطَيْت الْمِسْكِينَ فَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك . فَقُلْ : بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك . أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أَثَابَك بِالدُّعَاءِ فَادْعُ لَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ حَتَّى لَا تَكُونَ اعتضت مِنْهُ شَيْئًا . هَذَا وَالْعَطَاءُ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُمْ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا نَفَعَنِي مَالٌ كَمَالِ أَبِي بَكْرٍ } أَنْفَقَهُ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَطْلُبُ الْجَزَاءَ مِنْ مَخْلُوقٍ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ لَا بِدُعَاءِ وَلَا شَفَاعَةٍ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَوْلَةٌ وَأَيُّ دَوْلَةٍ فَهَذَا كَذِبٌ ; بَلْ الدَّوْلَةُ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الْآيَتَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَمَعَ هَذَا فَالْمُؤْمِنُونَ : الْأَنْبِيَاءُ وَسَائِرُ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَشْفَعُونَ لِأَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } فَمَنْ أَحْسَنَ إلَى مَخْلُوقٍ يَرْجُو أَنَّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ يَجْزِيه يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ; بَلْ إنَّمَا يَجْزِي عَلَى الْأَعْمَالِ يَوْمئِذٍ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إلَيْهِ الْإِيَابُ وَالْحِسَابُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ . وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْه أَجْرًا عَظِيمًا . وَلَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ .