تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي " الْأَبْدَالِ " هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ مَقْطُوعٌ ؟ وَهَلْ " الْأَبْدَالُ " مَخْصُوصُونَ بِالشَّامِ ؟ أَمْ حَيْثُ تَكُونُ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ قَائِمَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ بِهَا الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقَالِيمِ ؟ وَهَلْ صَحِيحٌ أَنَّ الْوَلِيَّ يَكُونُ قَاعِدًا فِي جَمَاعَةٍ وَيَغِيبُ جَسَدُهُ ؟ وَمَا قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُسَمَّى بِهَا أَقْوَامٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَيَقُولُونَ هَذَا غَوْثُ الأغواث وَهَذَا قُطْبُ الْأَقْطَابِ وَهَذَا قُطْبُ الْعَالَمِ وَهَذَا الْقُطْبُ الْكَبِيرُ وَهَذَا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ
1234
فَأَجَابَ : أَمَّا الْأَسْمَاءُ الدَّائِرَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْ النُّسَّاكِ وَالْعَامَّةِ مِثْلِ " الْغَوْثِ " الَّذِي بِمَكَّةَ وَ " الْأَوْتَادِ الْأَرْبَعَةِ " وَ " الْأَقْطَابِ السَّبْعَةِ " وَ " الْأَبْدَالِ الْأَرْبَعِينَ " وَ " النُّجَبَاءِ الثَّلَاثِمِائَةِ " : فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; وَلَا هِيَ أَيْضًا مَأْثُورَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ يُحْمَلُ [ عَلَيْهِ ] أَلْفَاظُ الْأَبْدَالِ . فَقَدْ رُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثٌ شَامِيٌّ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ فِيهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الشَّامِ - الْأَبْدَالَ الْأَرْبَعِينَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا } وَلَا تُوجَدُ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَمَا هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ; وَلَا هِيَ مَأْثُورَةٌ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَالْمَعَانِي عَنْ الْمَشَايِخِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا ; وَإِنَّمَا تُوجَدُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَوَسِّطِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ ; وَقَدْ قَالَهَا إمَّا آثِرًا لَهَا عَنْ غَيْرِهِ أَوْ ذَاكِرًا . وَهَذَا الْجِنْسُ وَنَحْوُهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ قَدْ الْتَبَسَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ فَصَارَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ مَا يُوجِبُ قَبُولَهُ وَمِنْ الْبَاطِلِ مَا يُوجِبُ رَدَّهُ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ . قَوْمٌ كَذَّبُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ . وَقَوْمٌ صَدَّقُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَإِنَّمَا الصَّوَابُ التَّصْدِيقُ بِالْحَقِّ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهَا حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ . فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ لَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا هُوَ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ الَّذِي وَقَعَ فِي دِينِهِمْ ; وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ الدِّينُ بِالتَّبْدِيلِ تَارَةً وَبِالنَّسْخِ أُخْرَى وَهَذَا الدِّينُ لَا يُنْسَخُ أَبَدًا لَكِنْ يَكُونُ فِيهِ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ مَا يُلَبَّسُ بِهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ خَلَفًا عَنْ الرُّسُلِ فَيَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِّينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ فَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . فَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَثَارَةُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ يَمِيزُ اللَّهُ بِهَا الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ وَالتَّرْتِيبِ وَالطَّبَقَاتِ لَيْسَتْ حَقًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ بَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ بَاطِلٌ ; فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى وَيَقِلُّ فِيهِمْ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى وَيَنْتَقِلُونَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ لُزُومُ مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ تَعْيِينُ الْعَدَدِ . وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالْحَقِّ وَآمَنَ مَعَهُ بِمَكَّةَ نَفَرٌ قَلِيلٌ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِينَ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَعْدَادُ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ ثُمَّ هَاجَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ هِيَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَمُسْتَقَرَّ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعَ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ وَبِهَا انْعَقَدَتْ بَيْعَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ بُويِعَ فِيهَا ; وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِمَكَّةَ فِي زَمَنِهِمْ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ . ثُمَّ إنَّ الْإِسْلَامَ انْتَشَرَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَكَانَ فِي الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ; بَلْ مِنْ الصِّدِّيقِينَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ عَدَدٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُحْصَرُونَ بِثَلَاثِمِائَةِ وَلَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَلَمَّا انْقَرَضَتْ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الْفَاضِلَةُ كَانَ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ; بَلْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ مَنْ لَا يُعْرَفُ عَدَدُهُ وَلَيْسُوا بِمَحْصُورِينَ بِعَدَدِ وَلَا مَحْدُودِينَ بِأَمَدِ وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ لَهُمْ عَدَدًا مَحْصُورًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْطِلِينَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَنَسْأَلُهُ مَنْ كَانَ الْقُطْبُ وَالثَّلَاثَةُ إلَى سَبْعِمِائَةٍ فِي زَمَنِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفَتْرَةِ حِينَ كَانَ عَامَّةُ النَّاسِ كَفَرَة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } أَيْ كَانَ مُؤْمِنًا وَحْدَهُ وَكَانَ النَّاس كُفَّارًا جَمِيعًا . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّهُ قَالَ لسارة : لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ الْيَوْمَ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُك } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } . وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ رَسُولِنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسْأَلُهُمْ فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانُوا ؟ وَمِنْ أَوَّلِ هَؤُلَاءِ ؟ وَبِأَيَّةِ آيَةٍ ؟ وَبِأَيِّ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ ؟ وَبِأَيِّ إجْمَاعٍ مُتَوَاتِرٍ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ثَبَتَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الْأَعْدَادِ حَتَّى نَعْتَقِدَهُ ؟ لِأَنَّ الْعَقَائِدَ لَا تُعْتَقَدُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ وَمِنْ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُمْ الْكَاذِبُونَ بِلَا رَيْبٍ فَلَا نَعْتَقِدُ أَكَاذِيبَهُمْ . وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكُفَّارَ وَيَنْصُرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ بِالذَّاتِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْصُرُهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالتَّعْظِيمُ فِي عَدَمِ الْوَاسِطَةِ كَرُوحِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ . تَدَبَّرْ وَلَا تَتَحَيَّرُ وَاحْفَظْ الْقَاعِدَةَ حِفْظًا .