مسألة تاليةمسألة سابقة
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَصْلٌ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالثَّلَاثِ الْمُهْلِكَاتِ وَالْمُنْجِيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْمُهْلِكَاتِ عَلَيْك بخويصة نَفْسِك . أَنَّهُ قَالَ : { شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ } فَجَعَلَ هَذَا مُطَاعًا وَهَذَا مُتَّبَعًا وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْهَوَى هَوَى النَّفْسِ وَهُوَ مَحَبَّتُهَا لِلشَّيْءِ وَشَهْوَتُهَا لَهُ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ أَوْ الْمَفْعُولُ . فَصَاحِبُ الْهَوَى يَأْمُرُهُ هَوَاهُ وَيَدْعُوهُ فَيَتْبَعُهُ كَمَا تَتْبَعُ حَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ إرَادَةَ الْقَلْبِ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } وَقَالَ : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَهَذَا يَعُمُّ الْهَوَى فِي الدِّين كَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْمَقَالِ وَالْقَدَرِ . كَمَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ : مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَهَذَا الْهَوَى مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْفُقَهَاءِ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَدْخُلُ الْفُقَهَاءُ الْمُخْتَلِفُونَ فِي اسْمِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . عَلَى وَجْهَيْنِ أَدْخَلَهُمْ فِي التَّقْسِيمِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَكَذَلِكَ قَبِلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني فِيمَا أَظُنُّ وَأَنْكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ . وَأَمَّا " الشُّحُّ الْمُطَاعُ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَفْسَدَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى مَنْعِ الْخَيْرِ وَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَيْسَ هُوَ مَحْبُوبًا وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَشْحُوحِ بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ النَّفْرَةِ وَالْبُغْضِ فَهُوَ يَأْمُرُ صَاحِبَهُ فَيُطِيعُهُ وَلَيْسَ كُلُّ مُطَاعٍ مُتَّبَعًا وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُتَّبِعٍ مُطَاعًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُطِيعُ الطَّبِيبَ وَالْأَمِيرَ وَغَيْرَهُمَا فِي أُمُورٍ خَاصَّةٍ وَلَيْسَ مُتَّبِعًا لَهُمْ أَمَّا التَّابِعُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مُطِيعٌ وَزِيَادَةٌ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مَعَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ . وَفَرْقٌ ثَانٍ أَنَّ الْمُتَّبِعَ الَّذِي يَطْلُبُ فِي نَفْسِهِ فَغَايَةُ الْمُتَّبَعِ إدْرَاكُهُ وَنَيْلُهُ وَهَذَا شَأْنُ الْهَوَى . وَأَمَّا الْمُطَاعُ فَغَايَةٌ لِغَيْرِهِ وَهَذَا شَأْنُ الشُّحِّ . وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الشُّحِّ أَنَّهُ شِدَّةُ الْمَنْعِ الَّتِي تَقُومُ فِي النَّفْسِ . كَمَا يُقَالُ شَحِيحٌ بِدِينِهِ وَضَنِينٌ بِدِينِهِ فَهُوَ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَالْبُخْلُ مِنْ فُرُوعِهِ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي طَوَافِهِ : رَبِّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي . فَقِيلَ لَهُ : مَا أَكْثَرُ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إذَا وُقِيت شُحَّ نَفْسِي وُقِيت الظُّلْمَ وَالْبُخْلَ وَالْقَطِيعَةَ أَوْ كَمَا قَالَ ; وَلِهَذَا بَيَّنَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ الشُّحَّ وَالْحَسَدَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْخَيْرِ مَعَ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَكْرَهُونَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى إخْوَانِهِمْ وَضِدُّ الْأَوَّلِ الْبُخْلُ وَضِدُّ الثَّانِي الْحَسَدُ . وَلِهَذَا كَانَ الْبُخْلُ وَالْحَسَدُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْحَاسِدَ يَكْرَهُ عَطَاءَ غَيْرِهِ وَالْبَاخِلُ لَا يُحِبُّ عَطَاءَ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَإِنَّ الشُّحَّ أَصْلٌ لِلْبُخْلِ وَأَصْلٌ لِلْحَسَدِ وَهُوَ ضِيقُ النَّفْسِ وَعَدَمُ إرَادَتِهَا وَكَرَاهَتِهَا لِلْخَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فَيَتَوَلَّدُ عَنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُهُ مِنْ النَّفْعِ وَهُوَ الْبُخْلُ وَإِضْرَارُ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ وَهُوَ الظُّلْمُ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَقَارِبِ كَانَ قَطِيعَةً . وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ النسائي مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ فِي النَّارِ مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ وَقَارَبَ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي جَوْفِ مُؤْمِنٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِيحُ جَهَنَّمَ وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ } وَرَوَاهُ النسائي أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ الْقَعْقَاعِ وَاللِّحْلَاحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا } . فَانْظُرْ كَيْفَ ذَكَرَ الشُّحَّ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ وَفِي الْأُخْرَى وَالْحَسَدَ وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ أَجْمَعَ وَكَيْفَ قَرَنَ فِي الْحَدِيثِ السَّمَاحَةَ وَالشَّجَاعَةَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ : شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } فَمَدْحُ الشَّجَاعَةِ فِي سَبِيلِ اللَّه وَذَمُّ الشُّحِّ . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ : { إنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَهُوَ اخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْحَرْبِ وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ } وَقُصِدَ مِنْ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَحَصَرَ الْمُفْلِحِينَ فِيمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَالشَّحِيحُ الَّذِي لَا يُحِبُّ فِعْلَ الْخَيْرِ وَاَلَّذِي يَضُرُّ نَفْسَهُ وَيَكْرَهُ النِّعْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ .