تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ : عَنْ أَحَادِيثَ : هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ ؟ وَهَلْ رَوَاهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَبَرِينَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ ؟ وَهِيَ قَوْلُهُ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ . ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ . ثُمَّ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك : بِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي ; وَبِك أُثِيبُ وَبِك أُعَاقِبُ } . وَقَوْلُهُ : { أُمِرْت أَنْ أُخَاطِبَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ } وَهَلْ هَذَا اللَّفْظُ هُوَ لَفْظٌ حَدِيثٌ ؟ أَوْ فِيهِ تَحْرِيفٌ ؟ أَوْ زِيَادَةٌ أَوْ نَقْصٌ ؟ وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيَّ فِيمَا مَنْ عَلَيَّ : أَنْ أَعْطَيْتُك فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَهِيَ مِنْ كُنُوزِ عَرْشِي قَسَمْتهَا بَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَيْنِ } وَقَوْلُهُ : { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ : الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ } .
12
فَأَجَابَ : أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَمَدَةِ وَإِنَّمَا يَرْوِيه مِثْلُ داود ابْنِ الْمُحَبِّرِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْعَقْلِ وَيَذْكُرُهُ أَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَابْنُ عَرَبِيٍّ وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ . وَمَعَ هَذَا فَلَفْظُ الْحَدِيثِ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ وَقَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ قَالَ مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك فَبِك آخُذُ . وَبِك أُعْطِي وَبِك الثَّوَابُ وَبِك الْعِقَابُ } وَفِي لَفْظٍ { لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : كَذَلِكَ } وَمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَقْلِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ ; لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْعَقْلَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ لَكِنْ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَتْبَاعُ أَرِسْطُو هُمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ بَاطِنِيَّةِ الشِّيعَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ رَوَوْهُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعُقُلَ بِالضَّمِّ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً لِمَذْهَبِهِمْ فِي أَنَّ أَوَّلَ الْمُبْدِعَاتِ هُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ وَهَذَا اللَّفْظُ لَمْ يَرْوِهِ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بَلْ اللَّفْظُ الْمَرْوِيُّ مَعَ ضَعْفِهِ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ قَالَ : { مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ خَلَقَ قَبْلَهُ غَيْرَهُ وَاَلَّذِي يُسَمِّيه الْفَلَاسِفَةُ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ لَيْسَ قَبْلَهُ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : { بِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي وَبِك الثَّوَابُ وَبِك الْعِقَابُ } فَجَعَلَ بِهِ هَذِهِ الْأَعْرَاضَ الْأَرْبَعَةَ وَعِنْدَ أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْبَاطِنِيَّةِ : أَنَّ جَمِيعَ الْعَالَمِ صَدَرَ عَنْ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ مَرْبُوبًا لِلْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ مُتَوَلِّدٌ عَنْ اللَّهِ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ لَا الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى إلَّا مَنْ أَلْحَدَ مِنْهُمْ وَلَا هُوَ قَوْلُ الْمَجُوسِ وَلَا جُمْهُورِ الصَّابِئِينَ وَلَا أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ بَلْ هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْلَ فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ عَرَضٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ وَهُوَ غَرِيزَةٌ أَوْ عِلْمٌ أَوْ عَمَلٌ بِالْعِلْمِ ; لَيْسَ الْعَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ عَرَضًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ فَإِنَّ الْعَرَضَ لَا يَقُومُ إلَّا بِمَحَلِّ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهُ قَبْلَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَأَمَّا أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ : فَفِي اصْطِلَاحِهِمْ أَنَّهُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَعْنَى الْعَقْلِ فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَ الْمُسْلِمِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ لَا بِلُغَةِ الْيُونَانِ فَعَلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَمْ يَقْصِدْهُ الرَّسُولُ لَوْ كَانَ تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ .